من اكثر المصطلحات السياسية المتداولة عند العراقيين هي الوطنية ، فهم مفتونين بها لدرجة انهم لا يستطيعون العيش بدونها ..ومفهوم الوطنية عند العراقيين يتنوع بتنوع اعراقهم ومذاهبهم ولا يأخذ شكلا واحدا ، فالوطنية عند الشيعةغير تلك التي يدعو اليها السني ، وقد تعني عند الشيعة حكم الاغلبية ، وعند الكرد تعني الفيدرالية او الدولة المستقلة ، وعند السنة العرب تعني الحكم بالشريعة بقيادة"يعربية"مشابهة جدا للأنموذج الذي قدمه حزب البعث .. لااحد يتفق على وطنية واحدة ، الكل يدعو الى وطنيته الخاصة ، وفق منظاره الخاص ، هذه الخصوصية التي يتفرد بها العراقيون عن غيرهم كانت مصدر تعاستهم قديما وحديثا ، الزعيم"عبدالكريم قاسم"قاد انقلابه ضدالعائلة المالكة بدافع وطني جماهيري كما كان يرى ويعتقد ، وقُتل هو ايضا شر قتلة باسم الوطنية"البعثية"ومن ذات المنطلق قاد"عبدالسلام عارف"ومن بعده"احمدحسن البكر"انقلاباتهم الدموية ، واعدم"صدام حسين"نصف دزينة من اخوانه الوطنيين القياديين عام 1979وهو يذرف دموع التماسيح بحجة"الخيانة الوطنية !" وتحت يافطة الحفاظ على الوحدة الوطنية ؛ قصف النظام الوحشي في بغداد مدينة كاملة بالقنابل الكيمياوية وسيق مئات الالاف من ابرياء الكرد الى المقابر الجماعية وهم احياء عام 1988 ..

ولم يختلف الوطنيون الجدد عن سابقيهم كثيرا ، فقد ساروا على نفس نهجهم السياسي ولكن بطريقة اكثر ارباكا و تعقيدا ، بعد ان فشلوا فشلا ذريعا في اقامة مشاريعهم الخاصة ، الشيعي فشل في اعادة المركزية القوية الى بغداد بقيادتهم وفشل"السني" في ارجاع نفوذه القديم الواسع وفشل الكردي في دفع بغداد الى تنفيذ المادة 140 الدستورية التي تعيد اليه حقوقه المغتصبة ، وعندما يأس الجميع من تحقيق اهدافهم الخاصة لجأوا الى استراتيجية اكثر وضوحا ، الشيعي اعتمد استراتيجية "الاغلبية السياسية او الاغلبية الوطنية"وهذا الطرح يهدف في النهاية الى اخضاع السنة والكرد الى هيمنته والسيطرة الكاملة على الحكم ، وطرح السني مشروع اقامة"اقليم"خاص به تطبيقا للمادة 119 من الدستور وذهب الكرد الى ابعد من ذلك ، فقد طالبوا بالانفصال نهائيا عن العراق واقامة دولتهم المستقلة!. 

والاشكالية الحقيقية التي مازالت تعاني منها بغداد بعد مرور اكثر من خمسة عشر عاما من الحكم هي ؛ ان لا احد يعرف لحد الان ماهو شكل الحكم فيها ، هل هو فيدرالي لا مركزي ديموقراطي ام مركزي شديد، استبدادي ، هل هو برلماني ام رئاسي ، هل يسيره الدستور ام تديره الاحزاب والكتل ام هو خاضع لنفوذ الاشخاص؟ الضبابية وعدم وضوح الرؤيةالسياسية من اهم سمات السلطة الحالية ، وهما السبب في التخبط الذي تعانيه لحد الان ..

مهما قيل عن مساويء"الثورتين"التموزيتين ؛ ثورة 14 تموز عام 1958 وثورة17 ـــ 30 تموز عام 1968 فقد كانتا على قدر كبير من الوضوح في الرؤية والبساطة في الطرح السياسي ، كان الزعيم" قاسم" يريد ان ينشيء دولة ذات طابع جمهوري على غرار الجمهوريات الموجودة في العالم العربي ، يتولى رئيس الوزراء السلطة في البلاد مع فريق وزاري كفوء ، وكذلك البعثيون كانوا يجاهرون بالعروبة وتوحيد الامة العربية على رؤوس الاشهاد ولايخفون شيئا عن الاخرين ، بخلاف الحكم الجديد ، اهدافه غامضة وسياساته غير واضحة ، يريد شيئا ويضمر شيئا اخر ، يدعي الالتزام بالدستور ويعمل ضده ، يمارس الطائفية سرا ويدعي الوطنية جهرا ، مجرم عتيد يقتل على الهوية ليلا ويدعي القانون وحقوق الانسان نهارا ، مفسد غارق حتى اذنيه في الفساد مع ذلك ينادي بمكافحة الفساد!

هذا النفاق السياسي الممنهج والازدواجية في السلوك والشخصية اذا لم تعالج وهي لن تعالج في ظل وجوه السلطة الحالية ، فان العراق سائر نحو التفكك المحتوم ..