الحجة التي يتعلق بها الإنسان السائر في طريق الضلال لا تصل به إلى الخلاص النهائي وذلك بسبب أن العهد الذي يجده في فطرته لا يقطع أمامه المراحل التي يتم بواسطتها معرفة الأعذار التي أصبحت لا تؤثر في النتيجة التي سيصير إليها، وقد بين الله تعالى هذا المعنى بقوله: (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون) النحل 111. وقد ذكر هذا الجدال في مواضع متفرقة من القرآن الكريم كقوله تعالى: (والله ربنا ما كنا مشركين) الأنعام 23. وقوله: (ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا) فصلت 29. وغير ذلك من الآيات، إلا أن هذا الجدال يتوقف عند ظهور الحجة البالغة التي تنقطع عندها الأعذار ويكون الإنسان شاهداً على نفسه مع جوارحه، كما قال تعالى: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) الأنعام 149. وهذه الآية الكريمة تتضمن دفع الاحتجاج والانكار الذي يبديه الإنسان للاعتراض على ما حصل منه خلال رحلته في هذه النشأة بسبب أن الحجة البالغة التي ذكرها الله تعالى لا يراد منها إلا إزالة الأعذار التي يجدها الإنسان في نفسه والتي جُعل العقل دليلاً عليها، إضافة إلى الاختيار الذي يتحكم في الفطرة الإنسانية وما ألهمها الله تعالى من مقومات الفتنة، كما قال عز من قائل: (فألهمها فجورها وتقواها) الشمس 8.

من بعد هذه المقدمة يمكن القول إن الله تعالى لا يحمل الإنسان على الإيمان قهراً وكرهاً فإن حصل ذلك كان خلاف الحكمة وخلاف التكريم، علماً أنه قادر على هداية الناس جميعاً، كما قال: (ولو شاء لهداكم أجمعين) النحل 9. ومن هنا يتضح أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها والميثاق الذي أخذ على الإنسان يكون تابعاً للدلائل التي يكتشفها الإنسان والتي تجعله يعترف بربوبية الخالق quot;جل شأنهquot; أما إرسال الأنبياء ما هو إلا تذكير وتوجيه لمن ينحرف عن تلك الفطرة التي استودعها الله تعالى لدى الإنسان. ولذلك أطلق القرآن الكريم على الإرسال مصطلح quot;البعثquot; والبعث يعني التنقيب عن الأشياء المفقودة بعد أن كانت حاضرة، ولذلك قال تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين***أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) الأعراف 172-173. وقد استودع الله تعالى هذا الميثاق في الفطرة التي فطر الناس عليها وأجراه في الآيتين السابقتين على سبيل التمثيل والتخييل، وهذا يعني أن الله تعالى بين للإنسان مجموعة من الأدلة يمكن أن يصل من خلالها إلى إثبات الربوبية والوحدانية، وكأن العقول شاهدة والبصائر مقرة والجميع قالوا quot;بلى شهدناquot; بالربوبية والوحدانية.

والتمثيل من الأبواب الواسعة في القرآن الكريم كما ذكر تعالى ذلك في مواضع كثيرة، كقوله: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) فصلت 11. وكذا قوله: (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد) ق 30. وهذا على سبيل التمثيل، فليس هناك قول أو عالم للذر كما يدعي الكثير من المفسرين وهذا quot;أقصد التمثيلquot; موجود في كلام العرب أيضاً كما قال أحدهم:

إذ قالت الأنساع للبطن إلحق******قالت له ريح الصبا قرقار

فليس ثمة قول ولا سائل ولا مجيب وإنما باب التمثيل من الأبواب الكبيرة في الأدب العربي ولا تخلو منه اللغات الأخرى حتى لا نبخس الناس أشياءهم. وقد ذهب الكثير من المفسرين إلى أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه كهيئة الذر وأشهد الملائكة عليهم ثم ركب فيهم العقل وهم في عالم الذر وقد ذكروا في هذا المعنى الكثير من الروايات بعضها مرفوعة وبعضها موقوفة وقد نحتاج لسردها أكثر من مقال لذلك أعرضنا عنها.

وظاهر القرآن الكريم يشهد بخلاف هذه الروايات لأن الله تعالى قال: (وإذ أخذ ربك من بني آدم) ولم يقل من آدم كما في الرواية وقال: (من ظهورهم) ولم يقل من ظهره وقال: (من ذريتهم) ولم يقل من ذريته، إضافة إلى ما تقدم فإن القرآن الكريم يبين أن الميثاق الذي أخذ على بني آدم فيه تحذير من الغفلة ومن تقليد الآباء مما يدل على أن لهم آباء مشركون وهذا لا ينطبق على جميع الذرية المستخرجة من صلب آدم بما فيهم ذريته الخاصة فضلاً عن الآخرين فكل الذي ذكر لا ينطبق على عالم الذر الوهمي الذي تمسكوا به، ولو سلمنا جدلاً أن الميثاق على حقيقته فههنا يجب أن لا يخلو من أن الله تعالى قد أخذ الميثاق دون وجود العقل أو بوجوده فإن لم يجعلهم عقلاء فلا يصح منهم معرفة الربوبية أو الخطاب بكل تفاصيله وإن جعلهم عقلاء فيجب أن يتذكروا ذلك لأن أخذ الميثاق لا يمكن أن يكون حجة على المأخوذ عليه إلا أن يكون ذاكراً له فعلى هذا التقدير لا يمكن للإنسان أن يتذكر الميثاق في هذه النشأة علماً أن الإنسان يتذكر الكثير من التفاصيل التي مرت عليه في الدنيا وهو في النار، كما في قوله تعالى: (وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار) ص 62.

وغيرها من الآيات التي تشهد بأن الإنسان يتذكر ما كان من أمره في هذه النشأة سواء كان في الجنة أو النار فلماذا لا نتذكر الآن ذلك العهد المسمى بعالم الذر، فإذا ثبت هذا لا يمكن حمل الآية إلا على التمثيل فليس هناك قول بل لسان حال الإنسان شاهد على ربوبية الله تعالى بما أودعه فيه من عقل وفطرة يستدل بها على وجود الصانع ومما يؤيد هذا التمثيل قوله تعالى عن الكفار: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) التوبة 17. علماً أن الكفار لا يمكنهم الاعتراف بألسنتهم لكن علامات الكفر ظاهرة عليهم فكأن حالهم حال من يعترف بالكفر، كما قال الشاعر:

وقالت له العينان سمعاً وطاعة******وحدرتا كالدر لما يثقب.

ومنه قول أبو النجم العجلي:

قالت له الطير تقدم راشدا******إنك لا ترجع إلا حامدا

وهذا من باب التمثيل والمجاز وهو باب واسع في كلام العرب، ومما مر يتبين أن العقل لا يمكن أن تتم به الحجة ولا يصح أن يؤخذ منه الميثاق في عالم الذر quot;إن وجدquot; لأن العقل يجب أن يمر بمراحل تجعله يميز بين الخير والشر وبين الحسن والقبيح والنافع والضار ولو كان ما ذكروه صحيحاً لكلف الإنسان وهو في بطن أمه لأن الشعور قد يوجد لديه في مرحلة متقدمة من المراحل التي يمر بها ولما لم يكلف الإنسان في تلك المراحل علمنا قطعاً أن المراد من الآية هو ما ركب في الإنسان وأقره على نفسه بلسان حاله جراء ما يظهر له من دلائل ساطعة تجعله يعترف بربوبية ووحدانية الله تعالى وهذه الدلائل تكبر مع الحواس التي زود بها، حيث أن الإنسان يولد وهو لا يعلم شيئاً كما قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) النحل 78.

وهذا يدل على أن الله تعالى خلق في الإنسان أدلة الوحدانية وجعلها في فطرته وجعل العقل دليلاً عليها ولكن الموبقات تحول بينه وبين تلك الأدلة ولا يمكن ازالتها إلا بالرجوع إلى الله تعالى ونبذ التقليد الأعمى الذي ورثه الأبناء عن الآباء باعتبار أن الأعذار الناتجة عن هذا التقليد لا تجدي نفعاً وقد ذم القرآن الكريم الذين قالوا: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) الزخرف 23. فإن قيل: لِمَ جعلت عنوان المقال في المقطع الأول من آية البحث ولم تجعله في المقطع الثاني الذي يقول تعالى فيه: (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) وهذا أظهر للمعنى؟ أقول: من الأشياء غير المحبذة في عالم الأدب أن يكون العنوان بصيغة الاستفهام. فإن قيل: وماذا عن السور التي تبدأ بالاستفهام؟ أقول: مطلع السورة لا يعتبر اسماً لها، علماً أن جميع السور تبدأ بالبسملة باستثناء سورة التوبة وأنت خبير من أنها لم تبدأ بالاستفهام وهذا البيان نحتاج إليه إذا ثبت أن أسماء السور غير توقيفية.