لا يوجد شك في أن الكنيسة القبطية هي الكنيسة الأعرق وطنياً وإقليمياً ودولياً إذ أن أصولها تعود إلى القرن الأول الميلادي ومؤسسها هو القديس مرقس أحد رسل السيد المسيح، ومن ثم فهي الكنيسة الأم التي ترعرع بها ومن خلالها الإيمان في المنطقة التي شهدت ولادة المسيحية. والكنيسة القبطية هي أيضاً التي استقى منها مسيحيو العالم في القرون الميلادية أصول ومباديء العقيدة المسيحية، وهي التي أفرزت أهم من دافعوا عن العقيدة المسيحية عبرالتاريخ مثل القديس أثناسيوس الذي دحض الأريوسية والقديس كيرلس الذي فنّد النسطورية. فضلاً عن هذا وذاك فالكنيسة القبطية هي التي بذلت واحتملت من أجل المسيحية وقدمت لها الشهداء طوال الألفي سنة الماضية. لذا فالمكانة السامية التي بلغتها الكنيسة القبطية اكتسبتها عن جدارة بإخلاص أبنائها للكلمة ودماء شهدائها الأبرار وعلم مفكريها وعلمائها.

لم تتنازل الكنيسة القبطية أبداً عن الإيمان بمباديء المحبة وممارستها، ولذا اكتسبت مودة من أيدوها ومن عارضوها، من أمنوا بمبادئها ومن اختلفوا معها، فكانت الكنيسة القبطية على الدوام أحد الأعمدة المسيحية والوطنية الراسخة في مصر. لجأت الكنيسة القبطية إلى الاعتماد على الله، حاميها الأكبر والأعظم وراعيها الأول والأخير، في مواجهة الاضطهادات الكثيرة التي واجهتها بداية بعصر الرومان وانتهاء بعصر الإخوان، وكانت النتيجة أن الكنيسة كانت تخرج باستمرار من حملات الاضطهاد أكثر قوة وصلابة وإيمان. واعتمدت الكنيسة القبطية على صلابة إيمانها في مواجهة كل أنواع البدع والهرطقات، إذ أخذت الكنيسة على عاتقها دحض الأفكار التي تحيد عن الإيمان المسيحي السليم، وكان من الطبيعي أن تبقى الكنيسة وتزول الهبدع والهرطقات.

لم يتطلب بقاء الكنيسة القبطية جهوداً بشرية أو عبقريات فذة، ولم تحتج الكنيسة قوة خارجية لدحض الهرطقات. كانت عناية السماء هي سبب البقاء والأساس الصلب لترعرعها. ولعل تاريخ الكنيسة الطويل يشهد على عمل الله فيها ومن خلالها. كل هذه السمات المميزة التي تتمتع بها الكنيسة القبطية تضع على عاتقها مسئوليات ضخمة ربما لا يعيها جيداً بعض أبنائها وعدد من قادتها.

حادت الكنيسة القبطية قليلاً عن تاريخها الناصع في العقود الأخيرة، إذ أن روحاً غريبةً بدأت في الطفو على السطح بين الحين والأخر، روحاً أحسبها بعيدة تماماً عن مباديء وتعاليم العقيدة المسيحية. ما أقصده هنا هو التوتر بين المؤسسة الكنسية القبطية الأرثوذكسية والمؤسسات الكنسية القبطية الأخرى كالإنجيلية والكاثوليكية. بدأ الاحتقان يسود علاقة أبناء الكنيسة القبطية بعضهم البعض في العقود الأخيرة. أتحدث هنا عن كنيسة قبطية واحدة بأفرع أرثوذكسية وكاثوليكية وإنجيلية، فالكنيسة وحدة واحدة، جسد واحد له رأس واحدة وروح واحدة، ويجب أن تبقى واحدة. كان الاحتقان يبلغ أقصى مدى له حين يقوم بعض افراد وقادة منظمات كنسية من هنا وهناك بنقد، وربما انتقاد، عقائد منظمات أخرى. تسبب سوء التفاهم وغياب الروح الواحدة وافتقاد بعد القادة للحكمة وفوق كل هذا انعدام الإيمان بوحدة الكنيسة في المزيد من التوتر. لكن صلوات مؤمنين حقيقيين على الجانبين نجحت على الدوام في منع حدوث انشقاقات حقيقية في جسد الكنيسة.

مع ازدياد الاضطهاد الذي تعرضت له الكنيسة القبطية في السنوات الأخيرة ظهر في الأفق نوع من التقارب بذل فيه رجال كافة الأطراف صلوات كثيرة وأصواماً طويلة وجهوداً كبيرة. وبالتقارب بدأ الكثيرون في الاعتقاد بأن حلم الوحدة الروحية للكنيسة سوف يتحول إلى حقيقة واقعة في القريب العاجل. غير أن الأمور في الأسبوع الأخير عادت إلى التوتر مرة أخرى بعد دعوة أساقفة وقسوس أقباط أرثوذكس رعيتهم للامتناع عن حضور مؤتمر quot;إحسبها صحquot; الذي تنظمه الكنيسة الإنجيلية ويحضره الألاف من المسيحيين من مختلف الكنائس.

من المؤكد أن الغيرة على المؤسسة الكنسية القبطية الأرثوذكسية كانت أحد أهم أسباب الهجوم على مؤتمر quot;احسبها صحquot; الإنجيلي. ربما كان الدافع وراء الغيرة هذه قيام بعض الإنجيليين بانتقاد لجوء الأرثوذكس للطقوس والعادات والتقاليد. وإذا كانت الغيرة على مؤسسة كنسية أمر جيد، فإن الغيرة من مؤسسة كنسية أخرى أمر غير جيد. وهكذا كانت الغيرة على المؤسسة الكنسية الأرثوذكسية والغيرة من نجاح المؤسسة الكنسية الإنجيلية أقوى من الغيرة على المؤسسة الكنسية وقوة وسلامة ووحدة الإيمان والمؤمنين. تحولت الغيرة على الأرثوذكسية إلى نوع غير مرغوب فيه من انتقاد الأخروالإساءة إليه. ومع هذه النوعية من الغيرة تحولت الأخوة الروحية بين المؤمنين بالسيد المسيح إلى نفور وعدم قبول ومقاطعة.

ولأن الهدف من هذا المقال ليس سكب الزيت على النار أو المساهمة في إزدياد التوتر والاحتقان، فلن نتعرض هنا بالتفاصيل لما حدث الأسبوع الماضي ولن نلقي اللوم على طرف ونبرئ طرفاً أخراً. ما يهدف إليه المقال هو التأكيد على خمس نقاط:

أولاً: أن السيد المسيح ليس حكراً على كنيسة بذاتها.

ثانياً: أن الكنيسة وحدة واحدة لا تنقسم، حتى وإن كانت بمنظمات وهيئات ومؤسسات مختلفة. وجميع أعضاء الكنيسة الواحدة من المؤمنين هم أعضاء فاعلون في جسد السيد المسيح الواحد كما يؤكد الكتاب المقدس.

ثالثاً: الاختلافات العقائدية لا تفصل بين بين المؤمنين الحقيقيين ولا تقسّم الكنيسة الواحدة.

رابعاً: إذا كانت المؤسسة الكنسية القبطية الأرثوذكسية قامت بأدوار تاريخية في حماية الإيمان المسيحي، فإنها مع المؤسسات الكنسية الأخرى كالكاثوليكية والإنجيلية تلعب اليوم أدواراً كبيرة لا تقل أهمية في رعاية الإيمان والمؤمنين.

خامساً: أن سياسة المنع و الانغلاق عن الأخر لا تبني إيماناً قوياً.

لقد جاءت الاحداث الأخيرة لتلقي بظلال قاتمة على وحدة الكنيسة ووحدة المؤمنين بالسيد المسيح. كما جاءت الأحداث لتلقي بظلال قاتمة أيضاً على وحدة الوطن، مصر، الذي يئن تحت ثقل الإرهاب والتخريب اللذين تمارسهما جماعة خارجة عن القانون وخارجة على وحدة الصف المصري الرافض للفاشية الدينية. جاء التوتر بين المؤسسات الكنسية المصرية في وقت كان يجب فيه على قادة هذه المؤسسات أن يعملوا سوياً لجمع أفراد كنيستهم. وإذا كانت الغيرة على مؤسسات كنسية هي السبب في أحداث التوتر الأخيرة، فإن الغيرة على سلامة الكنيسة ووحدتها وسلامة مصر ووحدتها يجب أن تبقى فوق كل المصالح والاختلافات. والمطلوب اليوم من قادة الكنيسة الواحدة بمختلف مؤسساتها أن quot;يحسبوها صحquot; بأن يتحدوا وطنياً تحت راية مصر التي تئن وروحياً خلف قيادة السيد المسيح الذي لا ولن ينقسم.

[email protected]