1
شاع في الأدب الحسيني ما يعرف بخطبة زينب سلام الله عليها في الكوفة، بعد أن رحِّل الركب الشريف من كربلاء إلى الكوفة، وهي قصة معروفة لدى قراء وسمَّاع المنبر الحسيني، بل هي من أشهر ما عرف في تضاعيف الخطاب الحسيني، والخطبة قطعة أدبية ثرة على صعيد الاسلوب، ولكنها من ناحية أخرى قطعة من السباب والشتائم باهل الكوفة، جميعا، ولا استثني أحدا!
جاءـ في هذه الخطبة على سبيل المثال ما نصُّه: (يا اهل الكوفة،يا أهل الختل والغدر... تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم الا وهل فيكم الاّ الصلف النطف،والصدر الشنف، وملق الإماء، وغمز الاعداء... يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخلاء... كذَّبتمونا وكفَّرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالا، وأموالنا نهبا كأننا أولاد ترك، وكابل، كما قتلتم جدنا بالامس، وسيوفكم تقطرمن دمائنا أهل البيت، لحقد متقدم قرّت لذلك عيونكم، وفرحت قلوبكم... تبغون محاربتنا،والله قست قلوبكم،وغلظت أكبادكم، وطُبِع على أفئدتكم، وخُتِم على سمعكم، وبصركم، وسوّل لكم الشيطان، وأملى لكم،وجعل على بصركم غشاوة...).
هذه مقاطع سريعة من خطة المزعومة للسيدة الحرة زينب بنت أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، والخطبة قطعة من السباب والشتائم، وقطعة من الافتراءات بحق أهل الكوفة المساكين، ولم نجد في تضاعيف هذه الخطبة المزعومة أي إشارة إلى اهل الشام، ولا يزيد بن معاوية، ولا اي إشارة إلى شهداء أهل الكوفة الذين تقدموا بين يدي الحسين عليه السلام بشجاعة منقطعة النظير، وإيمان عميق!
هل حقا هذا لسان الحرة السيدة زينب عليها السلام؟
هناك إصرار على تكريس هذه الخطبة في الادبيات الحسينية، وطالما تذرع بها بعض الناس من أجل الاساءة لاهل الكوفة عرضا، وللعراقيين جوهرا...
هذه الخطبة ليس لها وجود يذكر في المصادرالاصلية للرواية العاشورية، وفي مقدتها رواية أبي مخنف، ولا رواية عمار الدهني، يرويها ابن أعثم الكوفي المتوفي سنة 314، بسند مرتبك، علما إنه لايعتبر من المؤرخين الجياد، و يرويها الخوارزمي المتوفي سنة 568، في مقتله تبعا لابن أعثم بسند مرتبك، ويرويها الطبرسي في الاحتجاج، وكل مروياته في هذا الكتاب بحكم المراسيل ما عدا مروياته عن الحسن العسكري عليه السلام، وإذا ما رجعنا إلى مصدر الرواية لوجدنا العجب، فلم ترد له ترجمة واضحة في كتب الرجال سوى ما جاء في رجال الشيخ الطوسي، حيث عدّه من اصحاب علي بن الحسين عليه السلام وكفى، وهناك اختلاف مثير في رسم اسمه، فهو تارة حزيمة الأسدي كما في الفتوح،وتارة بشير بن حريم كما في الدر المنثور في طبقات ربات الخدور، وتارة حذيم بن شريك كما في الاحتجاج أحد المصادر المهمة للخطبة المزعومة، وفي اللهوف / الملهوف لابن طاووس اسمه بشير بن حزيم الاسدي، وفي كتاب بغداد لابن طيفور اسمه مرة حذام الاسدي واخرى حذيم! فاي مصدر هذا يمكن الاعتماد عليه في تقرير مثل هذه الخطبة التي ملؤها الشتم والسب... فإن مجهولية المصدر الاساسي تطيح بصحة هذه الخطبة المزعومة.
أن الحوراء عليها السلام بريئة من مثل هذا الخطاب لانه ينم عن شخصية غير متزنة، وبعيدة عن مقتضيات المنطق في تقييم وتقويم الناس.
يقول ابن طاووس (589 ــ 664) في كتابه الموسوم (الملهوف / اللهوف على قتلى الطفوف) ما نصُّه: (وروى زيد بن موسى، قال: حدَّثني أبي عن جدي عليه السلام، قال: خطبت فاطمة الصغرى بعد أن وردت كربلاء فقالت: الحمد لله عدد الرمل، والحصا...)، والرواية في الاحتجاج للطبرسي، الجزء الثاني ص 302، وهي خطبة طويلة نسبيا، بل هي أطول من خطبة زينب المزعومة، وقد القتها على مسامع الكوفيين عندما سيق الرحل الشريف إليها من كربلاء، أي متزامنة مع خطبة الحوراء زينب، التي مرّت، وجوهرها لا يختلف عن خطبة عمتها الكريمة، أي سباب وشتائم وقذف وتخوين (أما بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء... مكرتم والله خير الماكرين، فلا تدعون أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا... تباً لكم فانتظروا اللعنة والعذاب، ويذيق بعضكم بأس بعض، ثم تُخلدون في العذاب الإليم يوم القيامة...)، هذه بعض مقاطع من تلك الخطبة (العصماء)، كلها هجوم مقذع على الناس، بلا تمييز وبلا تفصيل، ثم يختم الراوي نقله بما نصه: (... فارتفعت الأصوات بالبكاء، والنحيب، وقالوا حسبك يا ابنة الطيبين، فقد أحرقت قلوبنا، وأنضجت نحورنا، وأضرمت أجوافنا، فسكتت)، هذا ما يرويه ابن طاووس أو ينقله عن الطبرسي برواته مرسلا عن زيد بن موسى بن جعفر، وهو المسمى بـ (زيد النار) نظرا لما أحدثه من مكاره ومصائب في بعض دور العباسيين، حرقا وتدميرا وتخريبا، فاستحق تأنيب الامام الرضا عليه السلام في رواية معروفة لدى الشيعة، وقد رواها ابن نما قبل ابن طاووس في كتابه (مثير الاحزان) بذات السند الهش المرتبك...
الخطبة، أي خطبة فاطمة الصغرى مشكوك بها جملة وتفصيلا، ولا توجد في أي من المصادر المعتبرة، بل حتى بعض المصادر التي يعتبرها بعضهم منحازة لأهل البيت عليهم السلام.
هل يطمئن العقل والمنطق إلى مثل هذه النصوص ليبني عليها ويربِّي عليها؟ نصوص عدوانية، انفعالية، بعيدة عن منطق الموازنة والعدل، فضلا عن كونها هشة السند، وبدرجة مذهلة؟
أن المنبر الحسيني باعتماده مثل هذه النصوص المكذوبة على مخدرات الرسالة إنما ساهم في خراب الوجود الشيعي، وساهم في زجه في غياهب التربية غير المسؤولة، وخدر عقله وفكره، أساء إلى أمة بكاملها، وما زالت لعنة هذه النصوص المكذوبة تلاحق العراقيين المساكين، فيما هم أوفى خلق الله للتشيع عبر تاريخه الطويل.
2
وفي هذا السياق هناك ما يُسمِّى بخطبة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب عليه السلام، وهي كسابقتها مصفوفة من الفحش والاتهام الجمعي، والتسقيط الكلي، بلا استثناء (يا أهل الكوفة سؤاة لكم ما لكم خذلتم حسينا وقتلتموه وانتهبتم أمواله وورثتموه وسبيتم نساءه ونكبتموه، فتباً لكم وسحقا...) وتقول الرواية: (فضج الناس بالبكاء والنوح ونشرالنساء شعورهن ودعون بالويل والثبور، وبكى الرجال ونتفوا لحاهم، فلم يُر باكية وباك أكثر من ذلك اليوم).
هذه الرواية العدوانية ليس لها أثر في المصادر المعتبرة، بل لم نجد لها أثر احتى في مقتل الخوارزمي، ومصدرها مجهول تماما، يرويها ابن نما وابن طاووس، وفيما يبرز في الخطبة اسم ام كلثوم شخصية جديدة في ملحمة الطف، ويقترن اسمها بهذه الخطبة (العصماء)، يرى صاحب مقتل الحسين الفقيد عبد الرزاق المقرم بانها ذاتها زينب بنت علي بن أبي طالب، وفي خضم هذه الفوضى السندية يذكر الشيخ الصدوق في أماليه ص 139 بان للحسين بنتا اخرى هي ام كلثوم!
أي تاريخ هذا؟
في هذا السياق، اي أثناءحمل الركب الشريف إلى الكوفة من كربلاء حيث كان هناك محفل خطابي محتدم تنسب الرواية المذكورة للإمام السجاد خطبة تزدحم بمفرات السب والشتم باهل العراق، حيث يذكر أهل الكوفة قتلهم الحسين شر قتلة، بعد أن دعوه وخدعوه، وفيما هو سلام الله عليه يقول:(... رحم الله امريء قبل نصيحتي، وحفظ وصيتي في الله، وفي رسوله، وأهل بيته، فأن لنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة) حيث تضج أصوت الكوفيين من جهة أخرى قائلة: (نحن كلنا يا ابن رسول لله سامعون، مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بامرك، يرحمك الله، فإنا حرب لحربك، وسلم لسلمك، لنأخذنّ يزيد لعنه الله، ونبرأ ممن ظلمك) فكان جوابه حسب الرواية المزعومة: (هيهات، هيهات، أيها الغدرة، المكرة، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم...)، ويستمر إمام الخلق الرفيع السيد علي بن الحسين بسب الناس، وتخوينهم، وتحقيرهم، واهانتهم...
هذه الرواية كما قلت ليس لها وجود حتى في مقتل الخوارزمي، فضلا عن المصادر الام للقضية الحسينية، وخطب زينب وفاطمة الصغرى وأم كلثوم وعلي بن الحسين المزعومة رغم حلاوة سبكها اللغوي الادبي، ولكنها تنتمي إلى أهل الشقاوات والمستهترين بالقيم والاخلاق من حيث المضمون والمحتوى.
الغريب أن هناك اصراراً منبرياً على نشرها والقائها والتثقيف عليها، والعراقيون يسمعون هذه الخطب مرات ومرات في كل سنة، فيخرج العراق من المجلس الحسيني، وهو يشعر بانه سليل الخيانة بالوراثة!
وهناك من يغذي ذلك...
إنها خطب مكذوبة على هؤلاء الابرار، فاهل الكوفة هم انصار الحسين، وهم الذين حيروا الدولة الاموية حتى اسقطوها، وهم جحافل زيد بن علي ويحي بن زيد وابناء الحسن والافطح وغيرهم من الثوار، ولا استبعد أنها خطب من صناعة الامويين واعداء شيعة أهل البيت من أجل دق اسفين العدواة بينهما، ولكن لماذا يؤكد عليها خطباء من ذوي اللسان غير العربي؟
هل هناك سرٌ؟
وكم يحب شيعة العراق جلد ذاتهم؟
بل طالما تُستخدم هذه الخطب المزعومة من قبل الاغيار لدفع شيعة العراق إلى شد حزام الموت من أجل ذلك اللسان المحرِّك من وراء خفاء ما بعده خفاء!
الامل أن يتصدى الواعون لمثل هذه الا كاذيب المفتراة على أهل البيت وعلى شيعتهم العراقيين.