يجهل كثير من العرب ربّما فضل quot;نجدquot; على الوطن العربي المعاصر، ومن أهم الفضائل المجهولة أن الجزء الإفريقي من البلاد العربية، و هو الجزء الذي يضمّ القسم الأكبر من العرب اليوم، ما كان ليكون عربيا لولا quot;السيرة الهلالية النجديةquot;، تلك المغامرة التي ركبت رحاها قبائل بني هلال و بني سليم القادمة إلى الأفق من أعماق نجد و عاليتها، وكانت خلاصتها الأبرز والأهم تعريب تلك المنطقة الممتدّة من وادي النّيل إلى شواطئ المحيط الأطلسي، و التي يقطنها اليوم ما يزيد عن مائتي مليون عربي، هم عرب مصر و السودان و تشاد و ليبيا و تونس و الجزائر و المغرب و موريتانيا ومالي.
فعلاقة نجد إذا بالمشروع العربي، هي علاقة تاريخية بنيوية عريقة، و شعور النجديين بمسؤوليتهم حيال العروبة و الإسلام هو شعور متداول متجدّد عبر الأجيال، ضاربة جذوره في رحم الأمة العربية و عمق الرسالة المحمّدية منذ أزمنة التأسيس، و لا يمكن أن ينظر نجدي صادق أيّا كانت أرضه إلى حركة الملك عبد العزيز آل سعود طيّب الله ثراه إلا باعتبارها إحدى حلقات هذا المشروع التاريخي الكبير و تجلّيا من تجلياته الدائمة السارية في ثرى الأرض العربية.
و لعلّ كثيرا من السعوديّين اليوم، لا يعرفون مثلا أن سبعين بالمائة من أبناء الشعب العربي التونسي هم من أصول نجدية خالصة، إمّا quot;هلاليةquot; أو quot;سليميةquot;، فقبائل quot;ورغمةquot; و quot;الهمامةquot; و quot;المثلاليثquot; و quot;جلاصquot; وquot;ماجرquot; و quot;نفّاتquot; و quot;بني سعيدquot; و quot;الكعوبquot; وquot;رياحquot; و quot;أولاد عيّارquot; و غيرهم من أبناء نجد الكبرى، يشكّلون غالبية السكّان في مناطق وسط و جنوب البلاد التونسية، و ما يزالون إلى هذا الوقت ملتزمون بكثير من عادات و تقاليد الأرض التي انطلقوا منها، و يطلقون على أعز ما يملكون صفات quot;نجديةquot;.
و قد كان الراحل المغفور له الملك عبد العزيز يدرك هذه الحقيقة النجدية العربية للشعب التونسي، و كان ذلك في رأيي سرّ تعاطفه الجليل مع القضية التونسية أيام الاستعمار الفرنسي و أصل دعمه الفائق لها، فقد ثبت بالبيّنة الدامغة أن الزعيم الحبيب بورقيبة لقي كل الترحاب و التقدير والدعم المطلوب من مؤسس المملكة عند زيارته لها سنة 1946، كما صرّح عدد من زعماء الحركة الوطنية التونسية أن الملك عبد العزيز دعّم ميزانية الحزب الحر الدستوري في حينها بثلاثة آلاف دينار ذهبي، صرف منها الزعيم بورقيبة على شؤون القضية إبان إقامته المصرية الطويلة نسبيّا.
و من أجمل الوثائق التي يمكن أن يطّلع عليها نجدي فخور بأصوله العربية و عقيدته الإسلامية، بخصوص مشروع الملك عبد العزيز في تأسيس و بناء و تطوير المملكة العربية السعودية، كتاب quot;الطريق إلى مكّةquot; لمؤلّفه الصحافي و الكاتب و الديبلوماسي محمد أسد، و هو الرجل النمساوي اليهودي الأصل الذي قدم إلى بلاد العرب بعد الحرب العالمية الأولى، وسرعان ما وقع في عشق شبه الجزيرة العربية، وخصوصا نجد التي وجد فيها أمير شابّا متوثّبا جامعا بين الشجاعة و الحكمة، يبغي العزّة لقومه و أمته و دينه، ويتطلّع إلى استئناف حركة نبيّه في الدعوة إلى توحيد الله و توحيد أرض العرب و المسلمين.
و ينقل محمد أسد صورا رائعة بديعة عن الحياة في صحراء نجد إبان فترة تأسيس المملكة العربية السعودية، و عن محاولات الملك المؤسس الدءوبة في جمع إمارات و قبائل مشتتّة متفرّقة متناحرة في دولة موحّدة قادرة على الذود عن راية الإسلام و إسناد أمة العرب، في ظل ظروف دولية شديدة التعقيد و السلبية، ظهرت بلاد العرب فيها أشبه بتلك الحالة التي كانت عليها إبّان الحقبة الزمنية التي سبقت بعث الرسالة المحمّدية، حيث تراجع العرب إلى التناحر الداخلي فيما بينهم و تكالبت الأمم على قصعتهم.
وخلافا للاعتقاد الّذي تسعى أطراف للترويج له، فإن روح مشروع الملك عبد العزيز كانت روحا تجديدية إصلاحية فيما يتعلّق بالإسلام، إذ اضطّر في أكثر من مناسبة كما يذكر محمد أسد إلى مواجهة quot;الإخوانquot; الذين عرفوا بتشدّدهم و تطرّفهم الديني، و عمل جاهدا على إقناع أهل العلم و الفقه و الدّين بأن المكتشفات العلمية العصرية لا تتناقض مع جوهر العقيدة المحمّدية، تماما كما كان الملك المؤسس رحمه الله شديد الاستياء ممّا آلت إليه أوضاع العرب في سائر البلاد المحيطة، و قد بذل في سبيل خلق إطار جامع لهم جهودا محمودة مذكورة ما وسعته إلى ذلك القدرة و الاستطاعة.
ويقتضي وفاء النجديين أينما كانوا لواحد من أهم و أبرز و أنجح الأعلام في تاريخهم، التشبّث بأسس المشروع السياسي و الديني الذي وضع قوائمه، ومن أهمّ هذه الأسس الالتزام بمبادئ التوحيد و التجديد و الإصلاح في التعامل مع متطلّبات العقيدة الإسلامية، و السعي إلى وحدة كلمة العرب على اختلاف دولهم و سياساتهم وحكوماتهم، فعزّة الإسلام من عزّة العرب كما أكّد دائما المغفور له طيّب الله ثراه وجزاه عن العرب والمسلمين كل خير.