بسبب ضعفي الشديد في الرياضيات، والتعامل مع الأرقام بكل أشكالها، كنت أجد صعوبة بالغة في استيعاب بعض الفلاسفة مثل (برتراند راسل) و(رينيه ديكارت) وغيرهما!!..
ولما كان هذا الأخير مصدراً من مصادر التطور الانساني الذي تستند إلى فلسفته الحضارة الأوروبية المعاصرة، إذ اعتبروه الأب الحقيقي للفلسفة الحديثة.. كما أصبحت مساهمات (رينيه ديكارت) الفلسفية منطلقاً للتطور الحضاري في أوروبا، فكان لابد لي من أن أعكف على دراسته كي أصل الى نسبة مقبولة في استيعابه!!..
* * *
ديكارت فيلسوفٌ وعالمٌ رياضيّ وفيزيائي وعالم فسيولوجيا، عاش ما بين 1596-1650، فلسفته ترتبط بنظريته في الرياضيات، وعلم نشأة الكون والفيزياء، وهو يعتبر واحداً من مؤسسي الهندسة التحليلية، ومن رواد علم الميكانيك، إذ أنه نوّه إلى نسبية الحركة والسكون، كما صاغ القانون العام للفعل وردّ الفعل، والقانون القائل بأن : (كمَّ حركة جسمين غير مرنين هو نفسه خلال التصادم كما كان قبله).
ووضع ديكارت الفكرة الجديدة عن التطور الطبيعي للنظام الشمسي لاعتقاده بأن دوران الجسيمات هو الشكل الرئيسي لحركة المادة الكونية، وأنها تحدد بناء العالم وأصل الأجرام السماوية.
وقد أعطت فرضيته هذه دفعةً للتقدّم في الجدل. وقد وحّد ndash; ديكارت - بين المادة والامتداد والمكان، وافترض أن الامتداد وحده لا يعتمد على أي عنصر ذاتي، وأنه مشروطٌ بالخواص الضرورية للجوهر المتجسّد. ومهما يكن فإنّ النزعة الثنائية ترتبط بفيزياء ديكارت المادية. وقد عبّر عن ذلك بقوله : quot; إنّ العلّة المشتركة للحركة هي (الله)، لقد خلق (الله) المادة مع الحركة والسكون، واحتفظ بالكم نفسه للحركة والسكون في المادةquot;.
وقد جاء مذهب (ديكارت) في الإنسان ثُنائياً بالِمثل، حيث آمن بأنّ هناك آلية جسمانية لا نفس فيها ولا حياة، تتحدد في الإنسان بنفسٍ مريدةٍ وعاقلةٍ، والجسم والنفس المتغايران يتفاعلان عن طريق عضوٍ خاصٍ هو ما يسمى بالغدة الصنوبرية. ووضع الفيلسوف (ديكارت) في مجال علم الفسيولوجيا بناء ردود الأفعال الحركية، ويعدّ هذا وصفاً من أقدم أوصاف الأفعال المنعكسة.
إنّ فسيولوجيا (ديكارت) المادية تتعارض مع أفكاره عن النفس اللامادية، ففي مقابل الجسم الذي تكمُن ماهيته في الامتداد، تقوم ماهية النفس في الفكر. وقد اعتبر (ديكارت) أن الحيوانات لا تزيد عن آلةٍ متطورةٍ خاليةٍ من النفس والقدرة العقلية.
bull; كما حدد الغاية القصوى للمعرفة بأنها : تحكُّم الإنسان في قوى الطبيعة، واكتشاف واختراع الأجهزة الفنّية، وإدراك العلل والمعلولات، وتحسين ماهية الإنسان الذي عليه لكي يتحقق من تثبيت هذه الأشياء فلابدّ له من أن يرفض الإيمان بأي شيءٍ ما لم يتثبت ويتأكد من البرهنة عليه بشكلٍ كاملٍ، وألا يتضمن عدم الإيمان هذا : أنّ الوجود كلّه لا يمكن معرفته، بل هو منهجٌ لاكتشاف البداية الأصلية غير المشروط في المعرفة التي حدّدها (ديكارت) بأنها quot; أنا أفكّر.. إذاً أنا موجود quot;.
* * *
bull; لعل هناك من القراء من يتساءل لماذا هذا الموضوع المعقد والمسرف في جديته، والغامض بالنسبة للعديد من القراء؟!.. ولعل هناك ممن سوف يجتهدون ndash; كعادة قراء ايلاف ndash; ويعتبرون هذا المقال عبارة عن استعراض للعضلات الثقافية!!.. حاشا لله!!..
الحقيقة أن عالم (رينيه ديكارت) مكتشف فلسفة الشك المنهجي، التي سار على نهجها الدكتور طه حسين، وغيره من كبار الأدباء والعلماء والمفكرين، وأصبحت تياراً فلسفياً شاملاً، دفعت بي لكتابة هذا المقال لأرد على من جادلني حول (ديكارت) متهماً إياه بأنه مؤسس للإلحاد السائد في العالم، وأنه هو الذي جلب الفكر العلماني، وباعد بين الناس وبين خالقهم!!.. وهذا الرأي يجانبه الصواب.
في الحقيقة إن عالم ديكارت عالم واسع وهو جدير بالقراءة لكل من يريد الوقوف على حقيقة التطور الذي وصلت إليه الانسانية، وبالذات في أوروبا!!.. واجتزائي للسطور التي قرأتموها كان يكفي لتأكيد إيمان (رينيه ديكارت) بالله، وهذا عكس ما يتصوره البعض من أولئك الذين لم يبذلوا جهداً كافياً لاستيعاب فلسفة (رينيه ديكارت) التي تقتضي منهم نضالاً حقيقياً للوقوف أمام فلسفته، ومحاولة استيعابها، بعد أن حققت للبشرية انجازات نراها واضحة للعيان في الحضارة الانسانية، وبالذات في العالم الغربي.
* * *
bull; لي رجاء خاص من إدارة تحرير إيلاف : وهو أنني أتمنى ألا توضع أي تعليقات لا تشارك في صلب الموضوع، والخارجة عن إطار ما جاء فيه من مضمون.. وألا يُتاح لمن يريدون التسلية أو الهجوم من أجل الهجوم من الإدلاء بدلوهم على هذا المقال.. مع احترامي لحرية الرأي.. التي قد لا تكون (حرية) عندما تغدو تطفلاً بالخوض في موضوع قد لا يعرف عنه من يخوض به شيئاً!!..