قد يخلط البعض بين الشعائر الدينية والطقوس الخرافية لذلك تبر ضرورة وضع معايير علمية للتمييز بينهما ودراسة أسبابها وظروف نشوئها، فإن الشعيرة الإسلامية تتحرك وفق حركة القرآن وسيرة النبى لتمثل نوعا من الحركة الشعائرية ضمن أهداف مرسومة لها كشعيرة الحج مثلا لذلك تضاف الشعيرة لله كقوله سبحانه (ذلك ومن يعظم شعائر الله فأنها من تقوى القلوب) سورة الحج/ الآية32 ومن أمثلتها شعائر الحج المشرعة فى القرآن الكريم، لكن الطقوس تمثل عادات وأعراف تتحرك فى أقوام معينين نتيجة لبيئة إجتماعية وظروف سياسية أو إقتصادية فليس من الضرورى أن يمضيها القرآن أو السنة أو العقل لكن يمكن دراستها وظروف نشأتها وآثارها وهنا يأتى دور العقل فى التمييز والترجيح حيث للكثير من الأمم والحضارات عاداتها وشعائرها كما ذكر ول ديورانت فى (قصة الحضارة) ومثالها الواضح المراسيم فى دفن الموتى لمختلف الشعوب والأمم. المشكلة تكمن عندما يتحول الطقس إلى شعيرة مقدسة أساسية قد تنسب إلى الشرع نفسه فتكون لها الأولوية والأساس فى حركة الأمة ووجوب الدفاع عنها فيتحول الهامش إلى أصل تستغرقه العواطف وعندها تخفى الأصول والرسالية والعقل وروح المقاصد فيفقد الدين روحه وقيمه وتسامحه وأدبه فضلا عما يزرعه من أحقاد وثارات وحواجز ضد الآخرين فى شعار (يا لثارات الحسين) وهم يقصدون الإنتقام من بروح لايقبلها العقل السليم ولا الشرع نفسه وهنا تبرز الكثير من التساؤلات .
كانت حركة الإمام الحسين نبراسا للأحرار بوجه الظلم من أجل الحرية والكرامة والعدالة كما قال (ما خرجت أشرا ولابطرا ولكن لطلب الإصلاح..هيهات منا الذلة..كونوا أحرارا فى دنياكم) يكفى ما كتبه عباس محمود العقاد فى كتابه (أبو الشهداء). لكن حصل دخول كثير من الطقوس الغريبة كالتطبير والضرب بالحديد والأدماء والمشى على النار وبعض ما يرد فى التشابيه وبدأت تتطور فى مراحل تاريخية وتتعمق وكأنها جزء من العقيدة والدين وصار لها تأثير كبير فى الأمة والأفراد من جوانب متعددة.
يعتقد الكثير من الباحثين والمحققين أن التطبير وضرب الرؤوس بالسيوف يرجع إلى الحقبة الصفوية والشاه إسماعيل الصفوى (1501-1736م) مؤسس الدولة الصفوية والمنتحل للمذهب الشيعى الإمامى مذهبا رسميا وإلزاميا للبلاد وهو يجابه الحكم العثمانى (السنى) ثم تعيينه وزيرا للشعائر الحسينية ليذهب الأخير ويجول العالم خصوصا بلاد الغرب فوجد بعض المسيحيين يضربون أجسامهم ورؤوسهم بالسيوف والسكاكين حزنا على السيد المسيح، فاستحسنه وكان أول من أدخله إلى الدولة الصفوية كما يذكر على شريعتى فى (التشيع العلوى والتشيع الصفوى) ومحسن الأمين فى كتابيه (اعيان الشيعة) و (رسالة التنزيه فى أعمال الشبيه). وكان للصفويين الدور الكبير فى تحويل التشيع العلوى العربى الأصيل من المبادئ والقيم والمحبة والإنسانية للإمام على الى الخرافات والطقوس والأحقاد والغلو التى ترسخت وتراكمت بمرور الأجيال والأزمان.
وأما تقديس فرس الحسين فقد بدأ فى جنوب الهند من الإسماعيلية الذين تحولوا إلى إمامية وشجعوا على التطبير كعادة كما اشتهر فى الهند والباكستان لاحقا المشى على النار حفاة الأقدام كما ذكر على محمد على فى كتابه (الشعائر الحسينية). وكان لهذه الطقوس آثارا سلبية من الفرق الإسلامية الأخرى حيث حصدت قتل الآلاف عام 1963م فى لاهور مما جعل مراجع النجف يصدرون الفتاوى فى تحريم التطبير والضرب بالسلاسل آنذاك لحقن الدماء.
المشكلة أولا فى بعض العلماء والخطباء كما يقول هبة الدين (إن العلماء بسبب خوفهم من العامة يقولون لهم عكس ما يعتقدون فهم يجاملونهم فى التطبير خوفا من هياجهم عليهم وهذه تنعكس سلبا على الدين وتساهم فى تخلفه وغلبة البدع وتحوله إلى وثنية تهزأ بها الأمم) وقد كان محسن الأمين أعلن تصديه لها وتحريمها وألف (رسالة التنزيه) فى اعتبارها بدعا كما ذكر الأحاديث الموضوعة لها ودور الخطباء إذ يقول (إن الكثير من القراء قد اختلقوا أحاديث فى المصائب لم يذكرها مؤرخ ولا مؤلف لما يرونه من تأثير عاطفى وهى من الأكاذيب الموضوعة كما أن ما يفعله البعض من جرح أنفسهم بالسيوف من تسويلات الشيطان وينهى عنها الدين والله لايطاع من حيث يعصى). لكن الأمين قد واجه حملة كبيرة ضده إذ هاجمه الخطباء والعوام وهددوه وشتموه وطردوه من الشام ونظمت القصائد ضده (يا راكبا واذا مرّرت بجلّق .... فابصق بوجه أمينها المتزندق) وكان الناس يشربون الماء ويلعنون الأمين وقد كتب ذلك على صناديق الماء فى الشوارع والحسينيات وقال فقيه الصفويه (نسلط جمهورنا وعوامنا على الأمين بحجة محاربته للشعائر الحسينية حتى يؤدبوه) ولايخفى الصراع بين المرجعيات مما جعل الأمين يهجر الشام ويأتى للنجف فصدرت بعض فتاوى لتحريم التطبير سنة 1926م من بعض المراجع رغم همس البعض للأمين (نحن نؤمن بحرمة التطبير لكننا لانعلنها للناس) ويحدثنا على الوردى عن محنة الأمين قائلا (وإننى لاأزال أذكر تلك الضجة التى أثيرت حول الدعوة الإصلاحية للسيد محسن الأمين قبل ربع قرن ولكنه صمد وقاوم فلم يلن ولم يتردد) مهزلة العقل البشرى ص299.
وقد أفتى بحرمته صراحة كثير من الفقهاء منهم محمد باقر الصدر فقال (التطبير أمر لايجوز أبدا ويجب الإمتناع عنه، إن ما تراه من ضرب الأجسام وإسالة الدماء هو من فعل عوام الناس وجهالهم ولا يفعل ذلك أي واحد من العلماء ويجب عليهم منعه وتحريمه). ولحساسية الموضوع يحدثنا تلميذ الصدرالأول وهو محمد جواد مغنية (وقد تطرف البعض فأبدعوا فى الطقوس بدعا يمقتها الله والناس من ضرب أنفسهم وإسالة الدماء فى بلدان استحكمت فيه هذه العادات) كما ألف مرتضى المطهرى كتابا من ثلاث مجلدات (الملحمة الحسينية) ناقدا الخطباء الحسينيين والطقوس والبدع فيقول (لقد حرفنا عاشوراء ألف مرة ومرة فى عرضها ومقدماتها ومتنها وحاشيتها وتفسيرها وتحليلها بسبب العلماء والرواة وعلينا أن نبكى بسبب الأكاذيب التى ألصقها الخطباء بالواقعة). وأدخلها الفقهاء المحرمون إلى البدع فى الدين مما يجب التصدى لها وقد اشتهر الحديث النبوى (أذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وألا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين). يقول على الوردى (ان خضوع الناس إلى فكرة التطبير والاقتناع بها ومن ثم ممارستها يرجع إلى مفهوم (التنويم الاجتماعي) فله أثر بالغ في شل التفكير فالذي يقع تحت وطأته لا يستطيع أن يفكر إلا في حدود ما يملي عليه الإيحاء التنويمي العام وأنت لا تستطيع أن تجادله أو تباحثه مهما يكن دليلك إليه صارخاً). وقد نقد محمد حسين فضل الله (المرجع العربى المعروف الذى تعرض بدوره لحملة كبيرة من المراجع الفرس لتسقيطه) رفض التطبير والطقوس كيف أن المطبرين قد يشربون الخمرة من أجل الإحماء مقدمة للتطبير ويمارسه من لايصلى ولا يلتزم بالفرائض وقال (إن التطبير يسيء إلى الإسلام باعتبارها تجعل من ذكرى عاشوراء مناسبةً لتعذيب النفس وجلد الذات.. فيحرم التطبير لسببين: الأوّل لحرمة الإضرار بالنفس، وثانيا: لأن ذلك يؤدي إلى تشويه صورة الإسلام والمسلمين) علما أن المواكب الأصلية تقدم من إيران وكان يرفضها المجتمع العراقى بشدة آنذاك كما يذكر على الوردى.
وأما دخول الفتيات أخيرا فى التطبير فى النبطية فى جنوب لبنان بعد جمعهم فى باصات مجانية من مختلف مناطق لبنان، قد رفضها علماء لبنان مثل موسى الصدر ومحمد مهدى شمس الدين ومحمد حسين فضل الله وغيرهم لكنها لم تتجاوز النبطية إلى غيرها من المدن والدول العربية الأخرى لكن البعض فى لندن أضاف الأطفال الصغار إلى التطبير.
بعض الفقهاء يعتقد جوازها أو استحبابه مستندا إلى أدلة واهية وضعيفة أهمها أن العقيلة زينب أخت الحسين قد ضربت رأسها بالحامل فى رواية مرسلة، لكنها ضعيفة جدا سندا ودلالة فإن مصدرها المجلسى فى بحاره حيث أرسلها بلا مصدر لناقل أو كتاب فضلا عن ضعف متنها المضطرب وتناقضها مع وصية أخيها الحسين (إنى أقسمت عليك أن لاتشقى على جيبا ولاتخمشى على وجها) كما صرح المفيد فى إرشاده فضلا أن فعل زينب ليس دليلا شرعيا. وقد فصل محسن الأمين ضعف القصة وتهافتها سندا ودلالة فضلا عن رفضها من العقل السليم والمنطق الصحيح كما فى كتابه (رسالة التنزيه).
والمهم هو النتائج السلبية وخطرها وأضرارها على الفرد والأمة وتحول الأسلام إلى عادات وطقوس فيها الكثير من الضرر فكرا وواقعا ومن هنا لابد أن نؤكد عما موجود فى الوثائق البريطانية من دعم السفير البريطانى فى بغداد للتطبير وتبرعه بالأكفان البيضاء والقامات لمن يقوم بالتطبير فضلا عن دعم مواكب التطبير فقط بالمال والسكر والرز وغيرها من السفارة البريطانية فى وقت كانت الحاجة الماسة إليها وسط أزمة عاشتها البلاد كما تذكره الوثائق ويذكرها كذلك حنا بطاطو فى كتابه (العراق) وغيره.
ولابد من دور للواعين والمصلحين من العلماء والمثقفين لمواجهة الأنحراف والأكاذيب والخرافات وتنقيح الكتب بين الغث والسمين والأحاديث بين الموضوعة والصحيحة وتحويل المنبر من العاطفية والسذاجة والخرافة إلى الرسالية والوعى والعقل والإصلاح.