مصطفى أحمد النعمان*

بعد أيام او أسابيع او أشهر لابد للحرب الدائرة ان تتوقف وحينها سيكتشف اليمنيون هول الفاجعة وحصاد حماقاتهم وتخليهم عن موروث تعايشهم الذي حفظ للبلاد سلمها الاجتماعي في حدوده الدنيا، وسيكون من الصعب التكهن بما ستؤول عليه الأمور على الأرض لاحقا لكن المؤكد ان الخطر الأكثر شراسة الذي سيواجه الجميع هو تهتك الروابط الاجتماعية بين أبناء المنطقة الواحدة وحتى داخل البيت الواحد الذي انقسمت فيه الاسر الى فرق متناحرة.

لن أخوض في متاهات الأسباب التي أوصلت الأوضاع الى الحالة المأساوية التي يرزح تحت وطأتها كل مواطن يمني يستوي في ذلك الفقراء والأثرياء وضنك العيش وانهيار كافة الخدمات الاساسية وانعدام مقومات الحياة الطبيعية، ولن ابحث في تفاصيل ما جرى ولكني سأحاول التفكير بصوت عال لأبحث عن السبل التي اراها كفيلة بوقف هذا النزيف ولست واهما بإمكانية عودة الأمور الى سابق عهدها لا نفسيا ولا سياسيا.

ان ما جرى منذ تقديم الرئيس هادي استقالته في 22 يناير 2015 واحتجازه في منزله فهروبه الى عدن أولا في 21 فبراير وسحب استقالته ثم خروجه الى الرياض عبر سلطنة عمان في 26 مارس بعد محاولة الحوثيين إعادة اعتقاله او قتله في عدن، كل هذه الاحداث مهدت لانطلاق "عاصفة الحزم" في 26 مارس بتحالف قادته المملكة العربية السعودية وبدء مرحلة العنف الذي لم تشهد اليمن له مثيلا في تاريخها.

اليوم وبعد مضي أكثر من تسعة أشهر لابد من طرح أسئلة والحديث الجاد والصريح وعدم التعلق بالأوهام والتمنيات.

سأبدأ بطرح اسئلة ستقود الإجابة عليها الى طرح الحلول التي اتصورها ممكنة في ظل ما آلت اليه الأوضاع.

كان ل"عاصفة الحزم" وبعدها "عودة الامل" هدفا سياسيا هو عودة الشرعية لممارسة مهامها من داخل اليمن، فهل تحقق هذا الهدف؟ وهل "الشرعية" قادرة على ممارسة مهامها الوطنية والدستورية؟ وهل هي مهيأة لتنفيذ واجباتها الوطنية والاخلاقية؟

يجب النظر الى أن "شرعية" الرئيس هادي تستند الى مبدأ التوافق الذي أمنته المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية وكان من المفترض توقف العمل بها في 21 فبراير 2014 بانتخاب رئيس جديد بعد إقرار دستور دائم، لكن الأمور سارت على غير ذلك النحو وتم تمديد فترة الرئيس وجعلها مفتوحة، وكان ذلك هو بداية التعقيد لقضايا البلاد اذ ان هادي صار حاكما تحاول كافة القوى السياسية التقرب منه وإرضائه دونما التفات الى نفسيته المتشككة بكل المحيطين به والتي انعكست على أسلوب حكمه البعيد عن عمل المؤسسات ومن الواضح انه لم يكتسب المهارة الكافية لإدارة الموقع رغم انه ظل نائبا للرئيس السابق علي عبدالله صالح لثمان عشرة عاما وظهر الفارق بينهما في طبيعة التعبير عن الفردية المطلقة في اتخاذ القرار وكيفية إخراجه، وقاد ذلك الى تعثر في المسار المتوافق عليه ما أدى الى تعارضه مع المصلحة الوطنية الجامعة.

اتسم أسلوب الرئيس هادي -منذ بدء فترة حكمه في 21 فبراير 2012 – في إدارة الشأن السياسي بالارتباك الشديد وعدم اكتراث بردود فعل شركاء المرحلة التي مازالت "توافقية"، وانعكس ذلك في طبيعة العلاقة بينه وبين رئيس الوزراء السابق باسندوة واستمر مع حكومة خلفه خالد بحاح فلم يبق من جامع بينه وبينهما الا العلاقة الاجبارية التي لا يستطيعون الفكاك منها وأدى ذلك الى ان صارت الحكومتين عاجزتين عن أداء اقل القليل من واجبهما الأخلاقي والوطني.

من المسلم به ان آثار العمل العبثي الذي جرى بين 2012 – 2014 أوصلت الأوضاع الى هذا المآل، وسيكون من أفدح الأخطاء ان يدعي ويتوهم أحد ان نهاية حملة "التحالف" ستكون بداية مرحلة استقرار وعليه فمن الواجب البدء فورا بالتفكير في الخطوات التي ستلي توقف الحرب، فاليمن اليوم صار بدون مؤسسة عسكرية او امنية جامعة تمزقت اوصالها وتوزعت ولاءات افرادها بين "الشرعية" و"التمرد" ولا يجب التعويل على التصريحات التي يطلقها بعض من جعلوا الحروب سلعة ووظيفة ونسمعهم يصرخون بأن جيشا وطنيا يتم تأهيله وإعداده، بينما الواقع ان ما يجري الان هو تشكيل فصائل عسكرية على أسس مذهبية وفي افضل الأحوال مناطقية.

نفس المنطق ينسحب على الجهاز الحكومي الذي كان يعاني من تهالك أدائه قبل بدء الحرب واصابه الشلل خلال العام المنصرم، كما ان الإجراءات التي اتخذتها "اللجنة الثورية العليا" التي يسيطر عليها الحوثيون والكم الهائل من التعيينات ستخلق امرا واقعا يصعب التعامل معه إداريا وماليا والاستخفاف بهذه القضية سيعقد البحث في إيجاد حلول ترضي الجميع.

هناك قضية أخرى مطروحة ويتم تداولها إعلاميا من قبل كثيرين وهي الحديث ان دخول اليمن الى مجلس التعاون الخليجي.

ان احاديث الامنيات والآمال متاحة للجميع لكن الواقع غير ذلك، فمنظومة عمل المجلس ذاته تعاني من خلل داخل بنيته السياسية ومن غير المحتمل ان تكون إضافة اليمن الى قوامه حاليا عملا إيجابيا لأن حملة "عاصفة الحزم" كان من بين أهدافها الرئيسية انهاء نفوذ وسلطة جماعة الحوثيين لكن الأشهر التسعة الماضية برهنت ان تحقيق هذا الهدف لم ولن يتحقق باستخدام القوة، وبالتالي فهل من المعقول ان يتداول الحديث عن ضم اليمن الى المجلس إضافة الى الخلافات وحالة الشك بين أعضاء المجلس الأصليين.

من الجائز الحديث عن تسهيلات للعمالة اليمنية في استعادة موقعها في خارطة المقيمين في دول المجلس كل بحسب حاجاته، ويمكن السعي لإقامة مشاريع تمتص الشباب الذين سيشكلون الخطر الداهم امام الجميع اذا تم تجاهلهم في المستقبل ويكفي ان نسترجع مشاهد الآلاف من الشباب المدججين بالسلاح الذين كانوا يشكلون عصب "المقاومة" ونتساءل اين سيكون مصيرهم بعد انتهاء الحرب!.

ما الحل؟

الواجب مواجهة الحقائق،

ان اليمن الذي نعرفه تمزقت اوصاله اجتماعيا ونفسيا،

وأن "عصا الشرعية" التي يتوكأ عليها الرئيس وحكومته ليس لها حاضنة شعبية داخلية بسبب النزاعات الشخصية بينهما على قضايا كثيرة اخرها القضية الوطنية، وتكاسلهما في التحرك الإيجابي داخليا،

وان الحديث عن اليمن الواحد اضحى –في رأيي وهو قديم – ضرب من الأوهام،

وأن التعويل على عودة الرئيس وحكومته الى صنعاء لن يتحقق قريبا،

وأن الحوثيين سيظلون القوة الأكثر تواجدا ونفوذا في مناطق شمال الشمال،

وأن الجماعات الجهادية ستجد لها مساحات تعبث فيها جنوبا وفي أجزاء من تعز والبيضاء ومأرب،

وأن الاقتصاد لن يتعافى بسبب شحة الموارد أصلا وتقلبات الأوضاع المالية والاقتصادية في دول الجوار ما سيزيد من النقمة الداخلية ويفتح مجالا لتجنيد الشباب مع التنظيمات المتطرفة.

&اذا ما اتفق اليمنيون واشقائهم على هذه الحقائق المحزنة والمخيفة فإن المدخل الصحيح يجب ان يبدأ في البحث عن قوة مجتمعية جديدة تبتعد بأفكارها وتصرفاتها عن عبث "المتمردين" وكسل "الشرعية"، وان يكون همها الأول العمل على امتصاص عوامل الكراهية والغضب التي تعصف بالمجتمع اليمني وتقسمه مذهبيا ومناطقيا، والمنطلق هو توزيع السلطة بين المحافظات بعيدا عن التقسيم الذي فرضه هادي على الجميع بحيث يتحمل ابناءها المسؤولية عن امنها وادارتها وخدماتها.

قد يبدو الامر مثاليا لكنه فكرة يخرج بالناس من اطار القوى التي صارت عبئا ثقيلا يتمنون الخلاص منهم، وعمل كهذا يحتاج الى جهد داخلي لتجميع كل الذين ابتعدوا عن الالتحاق بالشرعية المهاجرة او التمرد العبثي ويتطلب أيضا مباركة إقليمية تسانده.

ان الصراعات الذي تدور داخل جسد "الشرعية" تجعل من التفكير في إعادة الوئام الوطني وشيء من السلم الاجتماعي مسألة غير جادة وغير قابلة للتنفيذ وستزيد من المصاعب امام أي قادم جديد ومن هنا يستوجب على الجميع التفكير في صيغة حكم جماعي تختفي معها الوجوه التي تتلحف بالشرعية ليستمر عبثها ومعهم الذين يرون في الحرب مصدر رزق وإثراء وان على حساب حاضر الناس ومستقبلهم.

صورة قاتمة كئيبة عن المستقبل!

نعم، ولكن من اين للمرء اين يصف الحال بغير هذا!

*كاتب وسياسي عمل وكيلا لوزارة الخارجية