بداية أود أن أقول كلمة عن نفسي قد تلقي ضوءاً على صدقية ما أقول وهي أنني لست سياسياً، بمعنى متورطاً في الصراع الطبقي، لكنني أعمل في السياسة أحللها وفق القواعد الماركسية بالطبع وهو ما اعتبره واجباً إنسانيا مثلي مثل المؤرخ الذي لا يصنع التاريخ لكن يحلله ويسجله.

الفكرة التي تدهم موضوعنا حول "الشعب السوري يصحح التاريخ" هي أن حافظ الأسد قام بانقلاب عسكري على رفاقه في الحزب وفي الحكومة في 16 نوفمبر 1970 ورماهم في السجن لأكثر من ربع قرن دون سؤالهم عن ذنب اقترفوه في حركة وصفها "بالتصحيحية". إصراره الغريب على وصف حركته بالتصحيحية ناجم دون شك عن خشيته من أن انقلابه إنما هو حرفٌ للتاريخ وقد كان فعلاً كذلك الأمر الذي ما زال سراً طلسماً يستوجب قيادة الانتفاضة السورية أن تفك رموزة كشرط أساسي للإنتفاض.

كنت في سبعينيات القرن الماضي أدخل في نقاش حاد مع شيوعيين قياديين يؤيدون بحماس شديد غير طبيعي وغير منطقي حافظ الأسد الذي لم يخفِ أن انقلابه جاء ضد رفاقه البعثيين (مجموعة صلاح جديد) الذين قرروا تطبيق الاشتراكية كما هي في دول المعسكر الاشتراكي ؛ وكنت أذكرهم بخطابه كوزير للدفاع في العام 1966 وقد حضر إلى الجولان "يطهر" كتائب الجيش هناك من الشيوعيين الذين زادت أعدادهم في مختلف كوادر الجيش وخطب خطاباً حاقداً يقول.." لن يرتفع في سوريا غير علم البعث " ثم قرر طرد جميع الشيوعيين من الجيش وهو ما انتهى إلى تسليم الجولان لاسرائيل دون حرب في حزيران 67 ؛ كما أذكرهم بما يرقى لأن يكون خيانة وطنية عندما رفض تغطية الدبابات السورية جواً في شمال الأردن رغم تهديد الطائرات الاسرائلية لها. كنت أستهجن الموقف السياسي لأولئك الشيوعيين القادة ولم يدر بخلدي أن ذلك إنما كان بأمر من موسكو. وكنت علمت من مصادر خاصة أن الاتحاد السوفياتي كان سيدخل حرباً عالمية قد تكون نووية من أجل حماية نظام الأسد بعد أن اقترب الجيش الاسرائيلي من دمشق في "سعسع" في حرب أكتوبر 73، ومع ذلك لم تساعدني حصافتي لأن أكتشف العلاقة بين الأسد وبين المخابرات السوفياتية. إقترف الأسد أفظع الجرائم بحق الشعب السوري وبحق فريق من الشيوعيين ومع ذلك ظل أولئك الشيوعيون القياديون على تأييدهم المشبوه للأسد وعصابته الاجرامية، بل إن بعض الجماعات "الشيوعية" التي اعتادت أن تأتمر بأوامر المخابرات السوفياتية، والروسية اليوم، على ولائها لطغمة الأسد وهي تقترف اليوم جرائم لا مثيل لها عبر التاريخ.

كنت في السجن في العام 1963 حصيفا بما يكفي لأن أكتشف أن خروشتشوف وعصابته في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي إنما هم أعداء للشيوعية وأكدت ذلك في مذكرة سرية للحزب الشيوعي الأردني، لكن ليس لما يكفي لأن أكتشف فيما بعد العلاقة بين المخابرات السوفياتية وانقلاب الأسد "الإنحرافي". في مطلع القرن الحادي والعشرين فقط اسرّ لي عضو في القيادة القومية لحزب البعث في سوريا أنه شخصياً تسلم مذكرة من القيادة السوفياتية قبل انقلاب الأسد بأسابيع قليلة تهاجم القيادة في سوريا وتتهمها بالمغامرة لكن لم يدر في خلد أحد آنذاك أن تلك المذكرة إنما كانت تحضيراً لانقلاب الأسد الأمر الذي أكده عضو القيادة.

إذاك، وإذاك فقط عادت بي الذاكرة إلى الأيام الأولى لانقلاب الأسد وتساؤلاتي آنذاك عن لغز بقاء سوريا بدون حكومة لاسبوعين طويلين بعد الإنقلاب حتى نهاية نوفمبر 1970، ومعارضة الشيوعيين بقيادة خالد بكداش للإنقلاب - وكانوا مشاركين في حكومة "يوسف زعيّن" قبل الإنقلاب بوزيرين - حتى أفاجأ باشتراك الشيوعيين بوزيرين أيضاً في حكومة الأسد الإنقلابية الأمر الذي لا تفسير له سوى أن بكداش وصلته رسالة من موسكو، من مدير المخابرات السوفياتية يوري أندروبوف آنذاك وكان الصديق الشخصي لحافظ الأسد، تطلب إلية الاشتراك في الحكومة الانقلابيه حيث حافظ الأسد من "أصدقاء" الاتحاد السوفياتي. ذلك فقط ما فسر عدم تشكيل الأسد لحكومته في الأيام الأولى للإنقلاب وهو ما كان محل اشتباهنا حيث درج الانقلابيون الكثيرون في الدول المستقلة حديثاً في ستينيات القرن الماضي المصاحبة لردة خروشتشوف أن يشكلوا حكوماتهم حتى قبل وقوع الانقلاب. كما عادت بي الذاكرة إلى ايلول 1970 حين رفض الأسد تغطية الدبايات السورية جواً في شمال الأردن وقد تزامن ذلك مع تصريح سوفياتي يطلب من سوريا سحب قواتها من الأردن. وأخيراً وليس آخراً كان استعداد الاتحاد السوفياتي في أكتوبر 1973 الدخول في حرب عالمية قد تكون نووية دفاعاً عن نظام الأسد حين وصلت قوات اسرائيل حواف دمشق، علماً بأن الاتحاد السوفياتي وقف يتفرج على مصر تنهزم دون أن يحرك ساكنا، بكلمات جمال عبد الناصر يوبخ ليونيد بريحينيف في شباط 1970.

السؤال المفصلي في هذا الموضوع هو ما الفرق بين جمال عبد الناصر وحافظ الاسد فلا يحرك الاتحاد السوفياتي ساكناً في هزيمة عبد الناصر حزيران 67 وبالمقابل يستعد مغامراً بحرب نووية كيلا ينهزم الأسد في أكتوبر 73؟

الإجابة على هذا السؤال بمقدار ما هي سهلة بمقدار ما هي مهمة وأساسية يترتب على قادة الربيع السوري أن يأخذوها في حسبانهم كي يعرفوا العدو الأول والحقيقي للشعب السوري. الفرق هو أن عبد الناصر كان ثورياً يقود الشعب على طريق التقدم الاجتماعي بينما الأسد ضد الثورة ويقمع الشعب.

لكن المعلوم بصورة عامة أن الاتحاد السوفياتي كان دائما مع الشعوب في حراكها الثوري وضد أعداء الشعوب فهل انعكست مبادؤه؟ هذا ما يستوجب البحث فيه. ولو سمحنا لأنفسنا أن نبدأ من الأخير لكان جوابنا نعم انعكست مبادؤه فالاتحاد السوفياتي الذي كان يوماً حصن السلم والاشتراكية، يقود الثورة الاشتراكية في العالم غدا بعد الخمسينيات عدواً للتحرر والتقدم تتجاوز جرائمه في سوريا ممثلاً بروسيا جرائم النازيين. ويذكر في هذا السياق استعطاف بريجينيف للدول الإمبلايالية في مؤتم هلسنكي للأمن والتعاون 1975 لملاقاته في منتصف الطريق كيلا يخسر أي من الطرفين – قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي قلقة على إلا يخسر الإمبرياليون !!

الحقيقة الكبرى التي تغيب عن العامة هي أن الامبراطوريتين الإمبرياليتين بريطانيا وفرنسا ومعهما الولايات المتحدة الأميركية كانت مواجهتها للنازية والفاشية مواجهة مزرية بكل المقاييس ففرنسا حاربت هتلر ثلاثة أسابيع ثم استسلمت وبريطانيا ظلت طيلة الحرب العالمية الثانية ومعها الولايات المتحدة تحارب إيطاليا المتخلفة، والولايات المتحدة غطت ضعفها الحربي تجاه اليابان بجريمتين ذريتين – هيروشيما وناغازاكي – اللتين لم تحسما الحرب إلا بعد تدخل الاتحاد السوفياتي وتحطيمة لجيوش اليابان االبرية في منشوريا خلال النصف الثاني من شهر آب بعد جريمة القنبلتين. كان الاتحاد السوفياتي قبل الحرب قد ضغط على بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة لعقد تحالف ضد النازية لكن هذه الدول رفضت باصرار مثل هذا التحالف المفترض وبالتوازي رفض الاتحاد السوفياتي عقد تحالف اقترحه هتلر معه واكتفى بعقد ميثاق عدم اعتداء في آب 1939.

وهكذا ألقي كل عبء الحرب الثقيل بما يفوق التصور على الاتحاد السوفياتي مما اضطره إلى تجنيد أكثر من 15 مليون عسكري سوفياتي، واستنفاذ كل مخزوناته من المواد الأولية، وخسارة كل ما بناه البلاشفة منذ الثورة، واستعادة الجزء الأوروبي منه أرضاً محروقة بالكامل بالإضافة إلى مقتل 25 مليون مواطن سوفياتي وخسارة ترسانة منها 102 ألف طائرة. كل الخسائر جراء الحرب أمكن استعادتها باستثناء التشوه الذي لحق بالهيكل الطبقي للمجتمع الاشتراكي السوفياتي. كانت البروليتاريا قبل الحرب تمسك بالسلطة بقبضتيها الحديديتين أما بعد الحرب فقد تراجع وزن البروليتاريا في المجتمع لحساب تثاقل وزن البورجوازية الوضيعة بالطبع وهو ما لم يدرك خطورته على الاشتراكية غير ستالين الذي بادر بيقظته الثورية العالية وبعبقريته الموصوفة وشخصيته الصارمة لمعالجته عبر خطته الخمسية الخامسة 1951 – 1956. غير أن البورجوازية الوضيعة كانت قد انتشرت في الحزب وفي الدولة خلال الحرب فاستبَقَت تخطيط ستالين وانهت حياته في آذار 1953 وألغت الخطة الخمسية فانتقلت صناعة القرار الوطني من الحزب يبني الاشتراكية إلى الجيش يبني العسكرة والتسلح وهو ما يسيء تفسيره المراقبون على أنه سباق للتسلح.

الردة عن الاشتراكية بدأت في صبيحة موت ستالين إذ قرر سبعة أعضاء قدامى في المكتب السياسي للحزب وهو أعلى سلطة في الدولة إلغاء عضوية 12 عضوا جديداً في المكتب السياسي نفسه كان مؤتمر الحزب العام قد انتخبهم ؛ ثم في ايلول 53 قررت اللجنة المركزية للحزب إلغاء الخطة الخمسية المقرر لها إنقاذ الثورة الاشتراكية من آثار الحرب ؛ وفي العام 56 شن خروشتشوف هجوما باغياً علىى ايقونة الاشتراكية ستالين ؛ وفي حزيران 57 قام المارشال جوكوف بطلب من خروشتشوف بانقلاب عسكري تم بموجبه طرد سبعة أعضاء من المكتب السياسي والإبقاء على اثنين فقط هما خروشتشوف وميكويان ؛ وفي العام 59 قرر خروشتشوف فصل الثورة الوطنية عن الثورة الاشتراكية خلافاً لمبدأ لينين الأساسي ؛ وفي العام 61 ألغى خروشتشوف دولة دكتاتورية البروليتاريا وهو حسب ماركس إلغاء الاشتراكية ورافق ذلك القرار بالاستقلال المالي للمؤسسة الانتاجية ؛ وفي أكتوبر 64 قرر العسكر التخلص من خروشتشوف الأثر الأخير من البولشفية والنهج اللينيني ويبدو أن ذلك تم بعد أن بدأ خروشتشوف يدرك سوء صنيعه. يستهجن البعض كل هذا التفصيل لأنهم لا يدركون أن هذا هو الأساس الذي قام عليه انحراف العالم كل العالم وما وصل بالتالي إلى تدمير سوريا على رؤوس شعبها.

ما يجب أن يظل حاضرا في الأذهان هو أن فصل الثورة الوطنية عن الثورة الاشتراكية، وهو لا يقبل الفصل كونه من شروط التطور الرأسمالي ومخالفاً للمبدأ اللينيني بوحدة الثورتين العضوية، لا يعني سوى أن الاتحاد السوفياتي لم يعد اشتراكيا ولن يواجه الامبريالية بعد ذلك. هللت القوى الرجعية في العالم بسياسة الفصل بين الثورتين وقامت بالعديد من الانقلابات العسكرية الرجعية والدموية في الدول المستقلة حديثاً في عقد الستينيات ومنها انقلابان ليسا دمويين من تدبير المخابرات السوفياتية، إنقلاب الهواري بومدين 1965 ضد الاشتراكي أحمد بن بللا وانقلاب حافظ الأسد 1970 ضد يسار البعث الاشتراكي، ومع ذلك ظل بومدين والأسد يتمتعان بمنزلة رفيعة في الكرملين، فهما وكيلاه في إطفاء حركة التحرر العربية الإمتداد الطبيعي للثورة الإشتراكية.

ما يستوجب الإعتراف به حقاً هو أن البورجوازية الوضبعة أكثر وعياً ودهاءً من البروليتاريا وقد تعلمت من لينين ومن واقع الصراع الدولي أن ثورة التحرر الوطني العالمية والثورة الاشتراكية إنما هما في التحليل الأخير ثورة واحدة ضد التظام الرأسمالي الإمبريالي. بناء علية فإن الإرتداد عن الإشتراكية لن يتكامل ولو على المدى المتوسط بغير إخماد حركة التحرر الوطني والقضاء عليها ؛ وكانت حركة التحرر الوطني في العالم العربي بقيادة عبد الناصر هي الأبرز على الصعيد العالمي. ليس لدي أدنى شك في أن المخابرات السوفياتية هي التي دبرت إنقلاب بومدين في الجزائر وانقلاب حافظ الأسد في سوريا في جناحي ثورة التحرر العربية - وكلا الرجلين من تدريب العسكرتاريا السوفياتية - بهدف الإجهاز على حركة التحرر العربية الناهضة ؛ وليس بغير هذا يمكن تفسير قمع الحريات وتكميم الأفواه في سوريا وفي الجزائر المعروفتين بشعبيهما الثوريين وفي عصر إتسم بالإنطلاق التحرري. كما يمكن تفسير وقوف الاتحاد السوفياتي موقف المتفرج على مصر تنهزم في حزيران 67. ولا استبعد في هذا السياق تدبير المخابرات السوفياتية إنهاء حياة عبد الناصر مثلما كانت قد أنهت حياة أهم قائد في التاريخ وهو يوسف ستالين. ولا أبرئ اسرائيل حين أفترض أن السم الذي قتل ياسر عرفات هو من سموم المخابرات الروسية.

منذ الأيام الأولى لانتفاضة الحوارنة في درعا وجنوب سوريا كنت على يقين من أن روسيا لن تسمح للربيع العربي السوري أن يزهر حتى لو كلفها ذلك حرباً عالمية نووية. الجونتا العسكرية التي شكلها بومدين قتلت من الشعب الجزائري 300 ألف مواطن حتى قضت على انتفاضته في التسعينيات، واليوم الجونتا العسكرية التي شكلها الأسد سوّت سوريا بالأرض وقتلت حتى الآن نصف مليون مواطن وسجنت نصف مليون آخر وهجّرت 12 مليون دون أن تخمد الإنتفاضة، فكان أن إضطرت قوى المخابرات الروسية بقيادة بوتين لأن تحضر إلى سوريا لتستكمل تدمير سوريا وتنهي الإنتفاضة ملحقة العار بالشعب الروسي صديق الشعوب عبر التاريخ دون أن تنجح في منع " الشعب السوري يصحح التاريخ ". البورجوازية الوضيعة الروسية تدرك تماماً أن فشلها في إخماد إنتفاضة الشعب السوري فذلك يعني مباشرة دون شك فشلها في الردة على الاشتراكية. فهل ينجح الشعب السوري في أن يصحح التاريخ !!؟&

كنت طالبت المعارضة السورية منذ الأسابيع الأولى للإنتفاضة أن تعلن أن روسيا البورجوازية هي العدو الرئيسي للشعب السوري، وأن سوريا الحرة ستقطع كل علاقة لها مع روسيا إذا ما تدخلت لصالح الطغمة الحاكمة. لعل ذلك كان سيجنب سوريا الكثير من المآسي التي نزلت بها. ويجب أن نسجل هنا أن كل حركة نوعية للتطور الإجتماعي هي التي تفرز قادتها، وأما المتطفلون عليها فلا يأتيها منهم سوى الضرر.