المقدمة الثالثة من كتاب ( الأحكام الشرعية .. لحياةٍ مدنية )

&
&
الأحكام الشرعية وبصيغتها المتداولة حالياً ليست قديمة، قدم التدوين الإسلامي، بل هي خلاصات واستنتاجات من الأحاديث الموروثة عن النبي(ص) وصحابته وأهل بيته، ولطالما كانت الأحاديث المنقولة، لا تحتوي تفصيلاً دقيقاً لمَواطن إبتلاء الباحث عن الحُكم، فقد قام الفقيه بترجمة وتحويل تلك الأحاديث إلى نصوص فتوائية وأحكام ملزمة.
كيف ترجم الفقيه الأحاديث واستنبط منها الحكم الشرعي ؟
أغلب الأحكام الشرعية المتداولة هي ظنّية، أي، هي ما يعتقده الفقيه ويظنه مقبولاً من الله، وهو يذيلها دوماً بعبارة ( والله أعلم )، وبالفعل فإن أصل الحكم الحقيقي هو عند الله وحده، إنما يضع الفقيه مقدار فهمه وعلمه مما بحث.&
أين المشكلة إذن ؟&
إن هذه الأحكام ومنذ تشكيلها قبل قرون، لم يتجرأ أحد المساس بها، تحويراً أو تغييراً أو إلغاءاً، رغم عدم تناسقها حال حاضر مع مستجدات وسيرة الإنسان في القرن الواحد والعشرين.
كيف ذلك ؟
في كل صناعة بشرية، فإن المبدأ هو دخول مواد أولية إلى المصنع، لتتولاها أيادي صناعية ماهرة وماكينات تعمل بدقة وانتظام لتحولها إلى منتوجٍ مفيدٍ للمجتمع، وفي عالم الفقه لا يختلف الأمر كثيراً، لكن المشكلة كانت في نوعية وكمية المواد الأولية ( الأحاديث المنقولة ) وإدخالها إلى عقول الفقهاء ليتسنبطوا منها أحكاماً تخدم الباحثين عنها.
نبذة عن الأحاديث ..
هناك ست صحاح وأربعة كتب للحديث هي المشهورة في فرق المسلمين، وكل فريق جمع بحدود أربعين ألف حديث، وتصريحات جامعيها تؤكد حفظهم لمئات الألوف من الأحاديث ! لكنهم آثروا اختصار وتمحيص ما لديهم من خزين، فدوّنوا ما اعتقدوه صحيحاً برأيهم، مع العلم أن كَتبة الأحاديث أولئك عاشوا بين القرن الثالث والخامس الهجري.
{ إنّ ما مجموعه بين (10 إلى 15) شخصاً فقط، عاشوا قبل ألف، وألف ومائتي عام قرّروا مصير مليار وستمائة ألف مسلم حتى &العام 2016 وإلى ما شاء الله !}
&هندسوا تفاصيل حياة 23% من سكان الأرض !&
فأيّ نجاحٍ وأيّ ارتياح سيكون من استخدام بضاعةٍ عمرها هكذا ؟ ومُنتجوها عاشوا في ظروفٍ وأجواءٍ وحياةٍ غير التي نحياها.
كان الأمل سينعقد لو أن الذين أتوا من بعدهم، وضعوا لمساتهم وتجرؤا بعقولهم لتحوير وتطوير تلك البضاعة، لكن حدث العكس، إذ أقرّ الكثير من الفقهاء بإلغاء العقل حال عدم توافقه مع النص، أي زادوا الطين بلّةً وأغلقوا طرق النجاة من هذه الكارثة التاريخية.
نعود ونقول بخصوص صناعة الحكم الشرعي في الفقه القديم وإشكالياتنا، فحتى لو كان المُنتَج صحيحاً وناجحاً، لكن، ربما هو ليس في زمانه ولا مكانه، فلا معنى من انتاج ملابس وإكسسوارات من تصاميم الدولة العباسية (مثلاً)، فرغم كونها جميلة ومتقنة، لكن لن يقتنيها أحد في هذا العصر، ولو اقتناها أحدهم ولبس الجبة والقلنسوة وتمشى وسط الشارع، سيلقى نفوراً، معلناً وغير معلن، ومن يتعاطف معه، ربما من باب أن صاحب القلنسوة به مرضٌ نفسي !
لا واقعية في كثير من الأحكام الشرعية المطروحة، وأقصد بالواقعية، هو عدم تطابقها مع زمننا هذا، &زمننا الذي يذهلنا فيه، سرعة التغييرات وتدفق ملايين المعلومات وبالمجّان عبر شبكات الإنترنيت والقنوات الفضائية، وما زالت الأحكام تخوض في الشكوك عن نجاسة هذا الماء أو حلّية لحم ذلك الحيوان أو لون الدم في الحيض أو الاستحاضة أو النفاس!&
والأخطر من كل ذلك، فإنهم حصّنوا عملهم كله وبرروا عدم التجديد فيه، بحديث متواتر (من أفتى بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار) ! فصارت الأحكام المتداولة عبارة عن عملية نسخ ولصق للمنتوج الأولي، مع تغييرات طفيفة على بعض المسائل، ولم يرفعوا سقف الأحكام بما يوازي التطور الفكري والتكنولوجي، وتطور أساليب الحياة بشكل عام، وكيف اختلفت عن حياة من أسس هذا الفقه القديم.
أما في الفقه المعاصر، فنحن نرى، أن صناعة الأحكام الشرعية تحتاج إلى الواقعية والضمير والجرأة في طرحها، لا إلى التردد والتوجس، لإنصاف المتعامل بها، فليس من العدل أن نساوي بين إنسانٍ عاش في الصحراء والبداوة مجرداً من أيّ مقومات، مع آخر يعيش عصر غزو الفضاء وتداول المعلومات المجانية على مدار الساعة.
والواقعية هي أن لا تؤثر الأداآت الفقهية، والالتزامات، على خط سير الإنسان في الحياة، فنحن في رسالتنا هذه سنحاول قدر المستطاع تسخير الأحكام الشرعية وبما لا يعكر صفو المتعامل معها، بلحاظ عدم الخروج عن القواعد الأخلاقية العامة التي تحترم الإنسان وتحترم ظروف حياته.
&
&