&

لقد أصبت بصدمتين خلال شهر يونيو الماضي، وتتعلق الصدمة الأولى بخسارة الاقتصاد العالمي أثنين تريليون دولار في يوم واحد بسبب نتيجة إستفتاء خروج الملكة المتحدة من الاتحاد الأوربي، أما الصدمة الثانية فتتعلق بمشاهدتي فيديو قصير للمصارعة الحرة، وصلني على "واتس أب"، حيث تحمس أحد المتفرجين، فقرب من الحلبة، واستمر في أهانه لفظية للمصارع المهزوم الملقى على أرض الحلبة، وفجأة تدخل شخص فضرب هذا المتفرج بعنف وسقط فوق بدنه، ثم دفعه لداخل حلبة المصارعة، وقام بحلق شعره بعنف غريب، وبمساعدة حكم المباراة، وقد كانت صدمتي شديدة حينما أكتشفت بأن هذا الشخص المعتدي، هو مرشح الحزب الجمهوري للانتخابات الأمريكية لعام 2016، الملياردير دونالد ترامب، وهو أصلا ليس سياسي، وبالرغم من ذلك انتصر على جميع أعضاء الحزب الجمهوري السياسيين المخضرميين في الإنتخابات التمهيدية، لكي يمثل حزب من اعظم أحزاب العالم الديمقراطي، والذي تزعمه يوما الرئيس أبراهام لنكون.

وقد ذكرني ذلك بالغضب العالمي الشديد ضد السياسيين بعد الازمة المالية لعام 2008، مع بروز تباين الثراء العالمي، ومع المأساة التي تعيشها دول الشرق الأوسط، وخاصة بعد انتفاضات ما سمي بالربيع العربي، وبعد أن انتشر التطرف والتشدد بأشكاله الإرهابية المختلفة، من إرهاب تنظيم القاعدة وتنظيم دولة الخلافة الإسلامية، وحتى ارهاب الأنظمة الثيوقراطية المتطرفة، التي تعلق أعناق مواطنيها على مشانق الرافعات الإلكترونية، وتدفع بوكلائها في وطننا العربي، لكي تدمر العرق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا وغيرها، والذي أدى لقتل وجرح مئات الألوف من مواطني الشرق الأوسط، مع خلق إثنى عشر مليون لاجئ جديد، وبأسم مساعدة "المستضعفين" وتحرير فلسطين.

وقد أدت هاتين الصدمتين لكي أتساءل: ما الذي أوصل الشعوب الغربية المتقدمة لهذا الوضع الشعوبي الجديد؟ وليلفت هذا السؤال نظري لمقال كتبته إدارة التلفزيون البريطاني (بي. بي. سي.) على صفحتها الإلكترونية، في شهر أوكتوبر الماضي تقول فيه: "برنامج التقيم الدولي للطلبة (بي. أي. أس. ايه.) والذي يجمع بين الرياضيات، وجزء آخر يضم القراءة والعلوم الطبيعية والثقافة المالية ومع مقدرة معالجة المعضلات، وهو إمتحان يعتمد على إستخدام الكومبيوتر، وقد شاركت فيه سبعين دوله ومع مناطق اقتصادية، وستعلن نتائج عام 2015 في شهر ديسمبر من عام 2016. وتبين نتائج عام 2012 بأن الدول الأسيوية تتصدر القمة، في الوقت الذي فشلت كل من بريطانيا والولايات المتحدة في التقدم، بينما سجلت شانغهاي تقدما ملحوظا. فقد سجلت شنغهاي في امتحانات الرياضيات المرتبة الأولى وسنغافورة الثانية وهونج كونج الثالثة وتايوان الرابعة وجنوب كوريا الخامسة وماكو الصينية السادسة واليابان السابعة، بينما تقدمت في دول الغرب فنلندا بالمرتبة الثاني عشر والمانيا السادس عشر. اما الدول الغربية العظمى التقليدية، فقد كان ترتيب فرنسا الخامسة والعشرين وبريطانيا السادسة والعشرين وروسيا الاربعة والثلاثيين، والولايات المتحدة السادسة والثلاثيين. أما في امتحان القراءة والذي يضم ايضا العلوم الطبيعية ومعالجة المعضلات والثقافة المالية، فقد كان ترتيب شنغهاي الأولى وهونج كونج الثانية وسنغافورة الثالثة واليابان الرابعة وجنوب كوريا الخامسة وتايوان الثامنة. بينما كانت بين الدول الغربية فنلندا السادسة وكندا التاسعة وسويسرا السابعة عشر والمانيا العشرين، أما بريطانيا فكانت ترتيبها الثالثة والعشرين والولايات المتحدة الرابعة والعشرين."

ويعلق المسئول الألماني لهذه الامتحانات الدولية، اندرياس شليشر، فيقول: "لقد أصبح هذا التقيم اهم امتحان عالمي، وذلك لأنه تتأثر تنافسية بلدك، وفرص العمل المستقبلية فيه، بشكل كبير، على ما يحدث في الدول الاخرى. ففي الإقتصاد العولمي تحسن التعليم على المستوى الوطني ليس قياس للنجاح، لأنك تنافس العمل اليوم في بيئة عولمية، والاعتماد فقط على نتائج الامتحانات الوطنية لأي دولة، والتي تتحسن باستمرار، دليل كاذب للطالب على تحسن مخرجات التعليم. وسيحس الطالب بحقيقة ضغوط المنافسه حينما يتخرج ويبحث عن عمل، لذلك من المهم جدا أن يعرف الطلبة مدى استعدادهم للاقتصاد العولمي بعد التخرج، والذي يقرر مستقبلهم الوظيفي. وقد كان أول صدمة لي من هذه الامتحانات هي بلدي المانيا، حيث كنت أتصور بأنها رائدة في التعليم، ولنكتشف بعد هذه الإمتحانات الدولية العكس، حيث وصفت إحدى الصحف الرائدة ترتيب ألمانيا في هذه الإمتحانات بانها مأساة بناءة. كما كانت الصدمة الأكبر هي نتائج الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث بينت مدى هبوط مستوى مخرجات التعليم فيهما." وطبعا تلاحظ عزيزي القارئ بأن منطقة الشرق الأوسط بأكملها ليس لها أي وجود في ترتيب هذه الإمتحانات.

كما كتب أستاذنا الفاضل الدكتور عبد الله المدني، الأستاذ في العلاقات الدولية، والمتخصص في الشأن الأسيوي، من مملكة البحرين، مقال يقول فيه: "كاتب هذه السطور من أشد المؤمنين بضرورة إحداث ثورة في مناهج التعليم في الخليج العربي بمختلف مستوياته، كي تستجيب هذه المناهج لمتطلبات العصر وتتخلص من كل ما لم يعد له ضرورة، ويثقل كاهل التلميذ الملتقي، ويشتت جهوده. وفي هذا السياق دعوت مرارا وتكرارا.. إلى الإقتباس من النموذج الأسيوي، وخصوصا فيما يتعلق بإضفاء القدسية على التعليم، بمعنى تنشئة الطفل منذ نعومة أضفاره على مبدأ أن التعليم والتفوق فيه أمر مقدس وأن أي إهمال أو تقصير فيه هو بمثابة خيانة عظمى للوطن والمجتمع والأسرة، وبالتالي التخلص إلى الأبد من الفكرة التقليدية المنطوية على أن التعليم مجرد وسيلة للحصول على وظيفة ودخل يؤمنان لصاحبه منزلا وسيارة وزوجة. وبعبارة أخرى فأنه كلما كان المعلم ذا فكر مستنير ومنفتح على ثقافات العالم، وبعيدا عن الأساطير والإدلجة والتزمت، كلما زادت فرص حصول الطالب والطالبة على بيئة تعليمية نموذجية يستخدم فيها عقله بحرية، ويطلق فيها العنان لمواهبه في الإبداع والابتكار والإجابة على الأسئله الصعبة."

ويبقى السؤال: هل هناك علاقة بين البريإكسيت في بريطانيا ونجاح دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، بمستوى ترتيب الدولتين في امتحانات التقييم الدولي؟ وهناك أسئلة أخرى لعزيزي القارئ وخاصة بعد غياب دول الشرق الأوسط في تقييم الامتحانات الدولية: كيف يمكن أن نوفر لطلبة الشرق الأوسط بيئة تعليمية نموذجية، ليستخدموا فيها عقولهم بحرية، ويطلقوا فيها العنان لمواهبهم في الإبداع والإبتكار والإجابة على الأسئله الصعبة؟ وهل هذه البيئة التعليمية نموذج ثابت بحقائق مطلقة، أم نموذج متغير نسبي ليتناغم ويتآلف مع الوقائع المستقبلية والتطورات التكنولوجية القادمة؟ وما أهمية تناغم التعليم المستقبلي مع بيئة عمل الذكاء الآلي؟ فهل سيسرق الذكاء الآلي 47% من وظائف اليوم؟ وهل مستعدة مجتمعاتنا لهذا الغزو السريع؟ وكيف سينافس عقل الجنس البشري الذكاء الآلي مستقبلا؟ وهل ممكن أن توفر بيئة العمل الجديدة للذكاء الآلي، فرص عمل جديدة للجنس البشري؟ وهل حان الوقت لكي نهيئ تعليمنا لإنتاج قوى بشرية عاملة، تستطيع ان تعالج تحديات فرص العمل المستقبلية في بيئة الذكاء الآلي القادمة؟

للإجابة على هذه الأسئلة سنناقش معا مقال وكتاب جديد. فقد كتبت مجلة دي أيكونوميست مقالا في 25 يونيو الماضي وبعنوان، مسيرة الآلات، تقول فيه: "حذر الخبراء بأن إستبدال البشر بالآله سيؤدي لزيادة بطالة القوى العاملة، وقد وصل قلقهم من هذه القوة الخارقة حده، والتي وصلت إلينا قبل أن نعرف كيف سنتتعامل معها." فالخوف بأن تخسر القوى العامله ملايين من الوظائف، بسبب التطورات الجديدة في الذكاء الآلي، نتيجة للتعلم العميق، بتوفير معطيات ضخمة، مع تطوير شبكات إلكترونية معقدة، مأخوذة من شبكات العقل البشري، ليستطيع الإنسان الآلي التعلم والتدرب وأن يقوم بكثير من المسئوليات، التي يقوم بها الإنسان اليوم." وليؤدي كل ذلك النقاش للإسئلة التالية: كيف نساعد القوى العاملة لإكتساب مهارات جديدة مطلوبه؟ وكيف سنهيئ الجيل القادم لبيئة عمل مليئة بحرفية وكفاءة ومهارة الذكاء الآلي؟ وكيف سنجعل التعليم والتدريب مرن بحيث يستطيع البشر التعلم بسرعة وبكفاءة عاليه؟ وهل يحتاج ذلك للإصرار على أهمية فلسفة التعلم مدى الحياة؟ وهل يحتاج ذلك أيضا للتعليم والتدريب المستمر في بيئة العمل؟ وهل سنحتاج لتطوير التعليم على شبكات الانترنت، مع تطوير العاب إلكترونية تحفز على التفكير العميق والمهرات المعقدة؟ وهل ممكن أن نحول الذكاء الآلي من عدو يسرق الوظائف ويرفع نسب البطالة، إلى صديق يهيء الأجيال الجديدة للتعرف على مواقع ضعف مهاراتها، وتحليلها، وتفكيرها، ويساعد على توفر فرص تدريب جديدة لها؟ وأين سيكون موقع تدريب المهارات الشخصية والاجتماعية والاخلاقية في عالم الذكاء الآلي الجديد؟ بل وكيف ستطور مهارات التناغم، والتعاطف، والتعاون، وهي خبرات قد تكون بعيدة عن روح الذكاء الآلي؟

وهل يحتاج كل ذلك أيضا لتطوير خدمات الرعاية الإجتماعية، لتستطيع الطبقة العاملة التنقل بالتعليم والتدريب من بيئة العمل الحالية، إلى بيئة عمل الإنسان الآلي، بدون ضغوط حاجيات الحياة المادية؟ وهل حان الوقت لأموال الهليكبتر، أي هل حان الوقت لراتب أساسي لكل مواطن، بالإضافة لراتب عمله، مع شبكة رعاية إجتماعية تشمل الرعاية التعليمية، والصحية، والسكنية، والتقاعدية، مع تأمين التعطل؟ وهل يحتاج ذلك لعصرنة السياسات والقوانين والأنظمة المتعلقة بها؟ بل وهل سنحتاج لسياسيين وعلماء ومفكرين لوضع خطط لرؤية مستقبلية متزنة؟ وهل سيكون للسيلكون فالي دورا مهما في التعليم العالي المستقبلي؟ وهل ستتحول بيئة التعليم التقليدية في المدارس والجامعات إلى بيئة تعليم إبداعية بدون محاضرات، ولا صفوف دراسيه، ولا اقسام، ولا برامج، ولا كتب، ولا مكتبات، ولا امتحانات، ولا بروفيسورات؟ بل هل سيعمل الطلبة كفريق متناغم ومتعاون ومتعاطف، ليستفيدوا من خلال شبكات الانترنت من العلوم الطبيعية والإجتماعية، للتعامل مع معضلات معقدة، بعد مناقشتها والبحث عن تفاصيل دراستها، بل وليقف الطلبة أمام زملاءهم لعرض الحلول المقترحة، وفي فضاء واسع منير؟ وهل ستختفي الحدود بين التعليم العالي والتدريب العملي؟ وهل ستبدع الشركات المصنعة والجامعات التعليمية في خلق طرق تناغمية وتعاونية تدريبية بينها، لتهيئة الأجيال القادمة من القوى العاملة، إلى بيئة الذكاء الآلي؟ وهل سيستقي الطالب العلوم النظرية من الانترنت، وليتعامل مع مختلف المعضلات الحياتية في فناء الجامعة، وليكمل تدرييبه العملي في شركات العولمة الجديدة؟

وليسمح لي عزيزي القارئ أن نناقش بعض الأفكار من كتاب جديد بعنوان، المدارس الإبداعية، والذي كتبه أحد عظماء التعليم الغربي، وهو الأستاذ كن روبنسون. فيعرض الكاتب أولا تاريخ تطورات خبرة الموارد البشرية في المملكة المتحدة منذ عام 1841، فيجد بأن هناك تغيرات هامة في طبيعة عمل الموارد البشرية البريطانية، حيث كانت تمثل اليد العاملة في الصناعة 39%، والخدمات 38%، والزراعة مع صيد الاسماك 20%، ومجال البناء 2%. وقد تغيرت هذه النسب في عام 1961، حيث أرتفعت نسب القوى العاملة في قطاع الخدمات إلى 45%، وقطاع الصناعة إلى 38%، بينما انخفضت في قطاع الزراعة وصيد الاسماك إلى 5%، وبقت في مجال البناء 2%. ومع نهاية عام 2011 تغيرت هذه النسب بشكل مثير، حيث إرتفعت نسبة الموارد البشرية في قطاع الخدمات إلى 80%، وإنخفضت في القطاع الصناعي إلى 8%، بينما ارتفعت النسبة في قطاع البناء إلى 8%، وإنخفضت في قطاع الزراعة وصيد الاسماك إلى 1%.

تصور عزيزي القارئ إنخفضت نسبة القوى العاملة في القطاع الصناعي من 38% في عام 1961 إلى 8% في عام 2011، في نفس الفترة أرتفعت النسبة في القطاع الخدمي من 45% إلى 80%، ليبين لنا كيف تؤثر التكنولوجيات المتطورة في تغير نسب جهود الموارد البشرية في القطاعات المختلفة. فقد لعب الروبوت دورا مهما في الصناعة الحديثة، ليقلل نسبة القوى البشرية العاملة فيه من 38% إلى 8%. وفي نفس الوقت ساعدت التكنولوجية في تطوير خدمات جديدة كالخدمات المالية وخدمات المواصلات والإتصالات، لتزيد نسبة قواها العاملة من 45% إلى 80%.

وهنا يتحير الإنسان في التفكير ما تأثير دخول الذكاء الآلي بشكل واسع في القطاعات الصناعية والخدمية المستقبلية، فهل فعلا ستخفض نسب العمالة الصناعية إلى 47% مما هي عليه اليوم، كما يتوقع بعض علماء الاجتماع؟ ومعنى ذلك بأن 47% من القوى العاملة اليوم ستفقد عملها خلال العقدين القادميين. ولكن هل ستسمح الدول والحكومات بذلك، أم ستساعد تكنولوجية الذكاء الآلي لخلق فرص جديدة لقوى العمالة البشرية؟ وهل ستعرف نوعية الوظائف من جديد، ولينتهي زمن الوظائف التقليدية؟ فمثلا، هل سنحتاج في المستقبل&للسواق وسيارات الأجرة والمترجمين؟ وهل ستقل الحاجة للممرضات حينما سيقوم الذكاء الآلي بخدمات تمريضية كثيرة في المستشفيات، ولربما في منازل المسنين وبمساعدة الممرضات؟ وهل ستقل الحاجة للأطباء بحيث أن يقوم الذكاء الآلي بالكثير من المهمات التي يقوم بها الطبيب اليوم؟ وهل سيلعب الذكاء الآلي دورا أكبر في العمليات الجراحية؟ وهل ستتحول أجواء العمل لبيئة تحدي جديدة مثيرة تجمع بين البشر وذكاء الإنسان الآلي؟ وهل ستترافق بتغيرات سياسية وجويوبولتيكية وقانونية؟ ولنا لقاء.