يمر مجتمع العولمة الجديد بطوفان من إنتفاضة عولمية تجمع بين السياسة والإقتصاد والدين. فقد فقد المجتمع الدولي ثقته بالسياسيين، لينتهي أعظم حزب في العالم الغربي، بإختيار مرشحه للإنتخابات الرئاسية الأمريكية مياردير مستقل وغير سياسي أصلا، بعد ان خسر كبار مرشيحي الحزب التقليديين في الإنتخابات التمهيدية. فقد رفضت إنتفاضة حزب الشاي ترشيحات حزبهم الجمهوري، ليختاروا ملياردير مضاد للسياسة، بمعنى أنه لا يمثل الصدق والبطولة، ولا يتعهد بوعود يتنصل منها بعد فوزه، كما أنه غير ممول من قمة 1% الأمريكية. وقد عانى أيضا الحزب الديمقراطي من منافسة السناتور المستقل برني ساندرز، لمرشحتهم التقليدية السيدة هليري كلنتون، فقد حقق أنتصارا كبيرا أمام مقاومة سوق المال الأمريكية، حيث أعتمد على تمويل حملته الإنتخابية بقلة من الدولارات، من قبل الملايين من أفراد الفئات البسيطة في المجتمع الأمريكي، ولولا قوة المندوبين الكبار من قيادات الحزب الديمقراطي، لأنقلب السحر على الساحر. فلقد تقبل المواطن الأمريكي برني ساندرز أيضا، لأنه سياسي غير تقليدي ومستقل، وحسس المواطن الأمريكي بأنه صادق مع نفسه، ومستعد لمواجة قوى المال الأمريكية، فقد طالب برعاية صحية شامله للجميع، وتعليم جامعي حكومي مجاني للجميع، ورفع أجور الطبقة العاملة، وفرض ضرائب حقيقية على 1% من الثراء الأمريكي، وتنظيم سوق المال في الوول ستريت. فلقد دافع برني ساندرز عن 99% من الشعب الأمريكي، أمام قوة ثراء 1% منه. وقد أنتهت منافسة الحزبين بفوز دونالد ترامب ترشيح الحزب الجمهوري، وبفوز السيدة هيلري كلنتون ترشيح الحزب الديمقراطي، ولتنتهي أحلام اليقظة لي 99% من الشعب الأمريكي.
&
وفي خضم هذه الأحداث الإنتخابية الأمريكية، جرى الإستفتاء البريطاني على البريكسيت، والذي إنتهى بخروج بريطانيا من الإتحاد الأوربي، مع إستقالة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، بل وليبرز رائد حركة البريكسيت، بورس جونسون، وليتوقع الجميع بفوزه برئاسة الحكومة القادمة، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، لينزل زميله في المنافسة، وينسحب هو منها، ولتنتهي المنافسة ببروز سيدتين على منافسة رئاسة الحكومة البريطانية، ولتنتهي أحدهن بغلطة غبية، ولتفوز تريزا مي برئاسة الحكومة البريطانية الجديدة. وقد لفت نظري خطاب تريزا مي في ترشيحها الأولي لرئاسة حزب المحافظين ورئاسة الحكومة، فقد بدى لي بأنها سيدة جادة، بعيدة عن أجواء الإجتماعية للسياسيين البريطانيين، كما أنها قليلة الكلام، وكثيرة العمل، وقد أثبتت بتاريخها بأنها سياسية مسؤولة، فرأست وزارة الداخلية البريطانية بكفاءة نادرة، وأبلت بلاءا حسنا في مسئولياتها المعقدة. ولكن الذي لم أتوقعه منها، كرئيسة جديدة لحزب المحافظين البريطاني، تصوراتها عن الرأسمالية، ومدى أهمية شبكة الحماية الإجتماعية فيها، والتي تفهمتها بشكل جميل الرأسمالية الإسكندنافية، والتي طبقت الرأسمالية ذات المسئولية الإجتماعية بشكل ملفت للنظر في فنلندا والسويد والنرويج والدينمارك، حيث جمعت بين العصرنة والحداثة والحماية المجتمعية، ومع التطور العلمي والتكنولوجي، بل ومع الإزدهار الإقتصادي والسعادة. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ستتحول السيدة تريزا مي، رئيسة حزب المحافظين، إلى "برني سندرز" البريطانية؟ &وهل ستحول تشاؤم البريكيست البريطاني، والذي خسر العالم منه في يوم واحد اثنين تريليون دولار، إلى تفاؤل سويسري؟ وهل ستمر بريطانيا بمرحلة جديدة من تاريخها، لتتحول من أشلاء الإمبراطوية القديمة للمملكة المتحدة، إلى إنجلترا الجديدة الإسكندنافية؟ أليس ذلك الحلم الجيني الذي يعيشه كل إنجليزي في داخل دمه؟
&
للجواب على هذه الأسئلة، ليسمح لي عزيزي القارئ ان نناقش مقال كتبه الصحفي الغربي، ستيفن ديفيدوف سولومونن، بصحيفة الانترناشونال نيويورك تايمز، الصادرة في طوكيو، بالتعاون مع صحيفة اليابان تايمز، في 21 جولاي الماضي، وبعنوان، الرؤية البريطانية للرادكالية المحافظة، يقول فيه: رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة، تريزا مي، هي قائدة حزب المحافظين، ولكنها تبدو في نظر عالم الشركات العولمة العملاقة، أقرب في ايديولوجياتها من السناتور الأمريكي برني ساندرز، عن السيدة مارجاريت تشر، رئيسة حزب المحافظين السابقة ورئيسة وزراء بريطانيا من عام 1991 وحتى عام 2006. ففي خطاب ترشيحها لرئاسة حزب المحافظين، أبرزت تريزا مي رؤيتها، بالمطالبة بزيادة الحماية الإقتصادية للمواطنين، وزيادة مشاركة رأي العمالة البريطانية في إدارة الشركات، مع قوانين صارمة لمحاربة الإحتكار، والحد من الإفراط في رواتب المدراء التنفيذيين. ولم ينتبه لخطابها الكثيرون في الولايات المتحدة، ولكن رؤيتها المستقبلية، قد تلهم طريقة جديدة لمسئوليات الشركات العملاقة، في بريطانيا وباقي العالم. فقد تحدت في خطابها في برمنجهام، في الحادي عشر من الشهر جولاي الماضي، مجمل الأفكار المطروحة في موجة الإنتفاضة العولمية الجديدة، فقد أكدت عن رؤية بريطانية لبلد لا تعمل فقط لقلة الواحد في المائة من المحظوظين، بل لكل واحد منا، أي 100% من الشعب. فلم تحقق القوى العاملة في الماضي ما حققه الرؤساء التنفيذين للشركات، بل لم ترتفع الرواتب في بريطانيا منذ &أزمة عام 2008 إلا ببطئ، بينما ساعد نسب الفائدة المنخفضة ممتلكي العقارات، وعلى حساب الذين لا يستطيعون شراء منازلهم. كما أكدت بأن هناك قلق وأحباط عام بسبب &تباين الثراء، وتبين ذلك من خلال الغضب في الإستفتاء الأخير لترك الإتحاد الأوربي، حيث أكد هذا الإستفتاء لضرورة القيام بتغيرات جذرية في النظام الرأسمالي في البلاد. بل لتبدوا تغيراتها المقترحة لمعالجة هذه التحديات، وكأنها خارجة من فم رئيس حزب العمال المعارض، أو بالأخص وكأنه خطاب رئيس المعارضة لحزب العمال البريطاني، أو خطاب السناتور الأمريكي برني ساندرز في مؤتمر الديمقراطيين الأخير. فقد أعلنت تريزا مي بأنها ليست مضادة للخصخصة والتجارة، ولكنها أكدت أيضا، بأن هناك حاجة ضرورية لتنظيم السوق الحرة، بالقوانين والانظمة، ضد احتكارات الشركات. بل أن الحكم المتزن سيساعد هذه الشركات لتقرر قرارات أفضل، لمصالحها الطويلة الأمد وللأقتصاد العام.&
&
وفي الوقت الذي أكدت مي بأنها ليست مضادة للتجارة العالمية، ولكنها إنتقدت الشركات التي تديرها مدراء من طبقة القمة الصغيرة، بل أكدت بأنه يجب ألا يسيطر على إدارة هذه الشركات مجموعة صغيرة من طبقة معينة، كخريجو إيتون، وهارو، واكسفورد، وكامبردج. بل أصرت على ضرورة التناغم المجتمعي في هذه الشركات، بأن تشمل إدارة هذه الشركات ليس فقط المستهلك، بل أيضا العالمين فيها، كما هي في الدول الأروبية. وطبعا هذه رؤية جذرية جديدة لحزب المحافظين البريطاني، ففي الولايات المتحدة يدير المدراء الشركات لصالح المساهمين، وليس لصالح المستهلك والقوى العاملة في الشركة، بينما تنادي رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة بأن تدير هذه الشركات والمصانع من قبل أبناء المجتمع ككل. كما إنتقدت قرارات الحكومات السابقة بالسماح للأجانب بشراء الشركات البريطانية، حيث علقت على شراء شركة "كرافت" الأمريكية لشركة "كادبري" البريطانية، كما إنتقدت محاولة ضم شركة "استرازينيكا" البريطانية للصناعات الدوائية، إلى شركة "فايزر" الأمريكية للصناعات الدوائية، وذلك فقط لكي تتخلص هذه الشركة الأمريكية من دفع الضرائب. كما أكدت على ضرورة أخذ الاعتبار في هذه الصفقات للمجتمع والقوى العاملة، ويعني ذلك بحماية الشركات البريطانية من المشترين الأجانب، وخاصة شركات الصناعات الدوائية. ويعتبر كل ذلك تغيرات جذرية في الولايات المتحدة، حيث أنه تدار عادة الشركات من مجلس من المدراء التنفيذيين، الذين يعملون لصالح المساهمين، وليس لصالح الطبقة العاملة أو المستهلكين، بينما تريد تريزا مي أن تدار الشركات من المجتمع كمساهمين وعاملين ومستهلكين. &
&
ويبدو بأن الشركات بدأت تنتبه لمقتراحات السيدة تريزا مي، حيث أكدت شركة الإتصالات اليابانية "سوفت بانك" التي تحاول شراء شركة "ارم" البريطانية، بأنها ستبقي مركز هذه الشركة بمدينة كامبرديج البريطانية، وبأنها ستزيد عدد موظفيها البريطانيين للضعف، حينما تتم صفقة شراء شركة "أرم" بحوالي 32 مليار دولار. وأما عن موضوع تعويض المدراء التنفيديين، فقد طالبت "مي" الشركات البريطانية بتنفيذ الأنظمة التي تفرضها الولايات المتحدة، وذلك بالإعلان الرسمي عن النسبة بين متوسط رواتب الرؤساء التنفيذين، ومتوسط رواتب باقي العاملين في الشركات. كما أصرت بضرورة تصويت المساهمين على قرار تحديد رواتب الرؤساء التنفيذيين، وبأن تكون هذه الأنظمة مفروضة فرضا قانونيا على الشركات، لا كما هي الآن أنظمة طوعية تقبلها الشركات أو ترفضها. كما أكدت تريزا مي على ضرورة فرض أنظمة ملزمة ضد إحتكار الشركات للتجارة، وخاصة في المؤسسات المالية والمؤسسات الخدمية، وهو الموضوع البارز اليوم في إنتخابات الرئاسة الأمريكية، فقد أعلنت السناتوره الأمريكية اليزابيث وورن، وبرفيسورة القانون في جامعة هارفارد، في مؤتمر الديمقراطيين الماضي، بأن المؤسسات المالية والخدمية مركزة في يد قلة من الشركات العملاقة، والذي قد يعرض الإقتصاد الأمريكي والعالمي للخطر، لو تعرضت هذه الشركات للإفلاس، والذي قد يؤدي بالحكومة الأمريكية لإنقاذها بأموال دافعي الضرائب الأمريكيين.&
&
فنعيش اليوم في عالم يسيطر على خدماته المالية مؤسستين او ثلاثة، ولو تعرضت هذه المؤسسات للإفلاس، فسيتعرض الإقتصاد العالمي لهزة مدمرة. كما ان هناك شركتين او ثلاث تسيطر على الإتصالات والإعلام، مما يؤدي للإحتكار ورفع الأسعار على المستهلك. وقد يكون من السهل رفض تصورات تريزا مي، بمجاملة خطاب سياسي شعوبي، طرحته قبل إنتخابها، ولكن ستبين لنا الأيام مدى مصداقيتها. ومع ذلك، فالتغيرات التي تقترحها بربط الشركات بالدولة، تمثل تغير جذري عن ايديولوجية السوق الحرة المنظمة لذاتها باليد الخفية لآدم سميث، ومع الخصخصة التي كانت ثورة حزب المحافظين، منذ حكومة مارجريت ثاتشر في ثمانينات القرن الماضي. وقد تكون تصورات تريزا مي أيضا ثورية، بمطالبتها إعادة التفكير ومراجعة، ليس فقط ما يتعلق بمراقبة الشركات، بل أيضا علاقة الدولة بهذه الشركات. فقد أعتبرت في بريطانيا والولايات المتحدة الشركات تاريخيا وحدة ربحية مسئولة امام المساهمين، ولا يعني ذلك بأن تتجاهل الشركات المجتمع، ولكن الهدف الأولي للشركات حسب القانون الربحية. ويعني ذلك بان الإدارة المنتخبة والمعينة من المساهمين، لها الحق في تلك الربحية، كما يعني ذلك بانه وبأسم السوق الحرة، فقد خفضت الحماية بدل ان تعزز لتؤدي لزيادة ربحية المساهمين. وطبعا هناك تجاهل كبير لهذه الأساسيات، فالولايات المتحدة لديها آلية قومية أمنية، كما حاولت بريطانيا برنامج الشراكة الذهبية، لمنع السيطرة على شركاتها، ولكن بشكل عام ليس هناك أي تدقيق على من يكون المالك، ما دام ليس هناك مشاكل أمنية او قانونية او احتكارية. وهذا يختلف عن الأسلوب الأوروبي، حيث أنه يشارك ممثلوا القوى العاملة في مجلس الإدارة، كما أن الحكومة تحمي الشركات الوطنية الرائدة، فمثلا أنقذت الحكومة الفرنسية شركة دانون المصنعة للألبان بقانون حماية الشركات الوطنية المميزة، لمنع تملكها من الأجانب. ومع ذلك تطالب تريزا مي الشركات البريطانية بأن تكون متداخلة أكثر مع العاملين فيها، ومع الحكومة. ويبدو ذلك وكأنه تقليد للإشتراكية الأوربية، التي ينادي بها السناتور الأمريكي برني ساندرز، والذي يخالف تماما أيديولوجية خصخصة القطاع العام، الذي دفعت به السيدة مارجريت تشر والرئيس رونالد ريجن في ثمانينيات القرن الماضي. وقد أكدت تريزا مي بان برنامج حكومتها القادمة سيختلف عن برامج حكومات المحافظين السابقة، بل تصر بان ذلك يتوافق تماما مع اساسيات أيديولوجية المحافظين، التي كانت تدافع دائما عن المواطن والمجتمع، ولكن ليس واضحا إن كانت تصورات تريزا مي ستنجح.&
&
وينهي الكاتب مقاله بالقول: "نلاحظ هنا تناقض كبير في كل تلك الأفكار، حيث ان بريطانيا قررت الخروج من الإتحاد الأوربي مع ان خططها جميعها أوربية، فهي تطالب بدور للقوى العمالة والمجتمع، بالإضافة للمساهمين، وهي أفكار قريبة من واقع الشركات الألمانية. كما يبدو بان أفكار تريزا مي هذه بدأت تنتشر في الولايات المتحدة، من خلال السناتورين الأمريكيين، برني ساندرز، واليزابيث وارن. وليبقى السؤال الوحيد: هل سينفذ الديمقراطيون أم الجمهوريون المحافظون هذه الأفكار في الولايات المتحدة."&
&
وقد حان الوقت، بعد ما سمي بإنتفاضة الربيع العربي، والتي كان من أهم أسباب إشتعالها هو تباين الثراء في الشرق الأوسط بين فئة قليلة0.1% تملك كل الثراء، وفئة كبيرة 99% لا تملك حتى سكنها، أن نتسائل: هل ستراجع دول الشرق الأوسط أنظمتها وقوانينها حول الخصخصة والسوق الحرة المنفلتة؟ وهل سيلعب العاملون والمستهلكون دورا أساسيا في إدارة الشركات الخاصة؟ وهل ستراجع الحكومات دور الدولة في شركات القطاع الخاص؟ وهل ستحدد الخدمات الأساسية التي يجب أن تكون تحت حماية الدولة، لا في يد ربحية القطاع الخاص؟ وهل حان الوقت أن تتدخل الدولة في الحد من ارتفاع كلفة الرعاية الصحية والتعليمية؟ وهل ستقضي الدولة على البيروقراطية المشلة في مؤسساتها، قبل ان تتحمل مسئولياتها الجديدة نحو القطاع الخاص، لكي لا تنهي إنتاجيته العالية، وإبداعاته المميزة، وربحيته الاقتصادية؟ ولنا لقاء.&
& & & & & & &

د. خليل حسن، سفير مماكة البحرين في اليابان
&