&كنت قد شرعت أكتب في كسر القانون الدولي العام الذي ينظم علاقات الإنتاج ويرسخ الاستقرار في مختلف المجتمعات وإذ بالدكتور سمير أمين المعروف كماركسي ضليع يسبقني للبحث في نفس الموضوع تحت عنوان "في أصول الفوضى الراهنة"، ولذلك فضلت الاستمرار فيما شرعت الكتابة فيه لكن تحت عنوان الدكتور أمين "في أصول الفوضى الراهنة" كي أدلل على أن الدكتور سمير أمين لم يقترب من أية أصول للفوضى العارمة الراهنة في "النظام" العالمي القائم إذ عزا هذه الفوضى لسببين مزعومين لا وجود لهما أساساً سماهما: أولاً الليبرالية المعولمة، وثانياً أزمة حركات النضال من أجل "عالم آخر أفضل".

يؤسفني بالغ الأسف أن هذا الرجل، الدكتور سمير أمين من مصر، والذي نجح في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين أن يجعل من الماركسية الموضوع الرئيس الذي يستقطب كبار المفكرين وعلماء الإقتصاد والسياسة رغم ما بدا من فشل لها بانهيار الاتحاد السوفياتي والمشروع اللينيني في الثورة الاشتراكية العالمية - وفي ذلك شأن عظيم طالما أن الانسانية لن تستأنف رحلة التقدم الاجتماعي قبل أن تنجح في استشراف طريقها وفق أحكام الماركسية – بؤسفني أن هذا الرجل لم يعد يمتلك من الماركسية أهم مفاصلها.

فالليبرالية التي يعزو إليها أمين الفوضى الراهنة إنما هي في الجوهر "إقتصاد السوق الحرة" التي نادى بها شعار البورجوازية الفرنسية الشهير عبر ثورتها في نهاية القرن الثامن عشر 1789 (laisser passer, laisser faire) (دعه يعمل، دعه يمر) وما يرافق هذا من ديموقراطية بورجوازية ولكن سرعان ما يأتي النظام الرأسمالي على حرية السوق من خلال تمركز النظام الرأسمالي في احتكارات مهيمنة على السوق بالعكس مما يدعية سمير أمين طالما أن الاحتكارات تتنامى ضد حرية السوق، أي ضد الليبرالية.

ما حَرَفَ الدكتور سمير أمين بعد أن كان قامة ماركسية فارعة نجحت في الإضاءة على زوايا كانت معتمة في العلوم الماركسية، ولعل مثل هذه النجاحات هي التي دفعت به إلى مسالك ضالة ومضللة مستهدفاً ما يسميه البعض تطوير الماركسية حتى وصل به الأمر لأن يعتبر الفوضى دالة على الليبرالية !! أيعقل هذا من مفكر له اسم في عالم الماركسية !!؟ الفوضى هي الفوضى ولا تدل إلا على نفسها، على الفوضى، فكيف بالفوضى تأتي بالليبرالية التي لها قواعدها اللازمة !؟ الليبرالية جاءت بها السوق الحرة التي ولدت أغنى نظام للإنتاج عرفته البشرية قبل الاشتراكية وهو النظام الرأسمالي الذي هو الأم التي حملت بالاشتراكية والشيوعية.

السوق الحرة انتفت مع تنامي الاحتكارات كما انتفت مع الكينزية (Keynesianism) التي حدت من الاستغلال الرأسمالي خوفاً من الشيوعية. وفي هذا السياق يجدر النظر في الإدعاء الوازن بأن الدول الرأسمالية وخاصة منها بريطانيا والولايات المتحدة لم تمارس السياسة الاستعمارية منذ هزيمتها أمام البلاشفة في العام 1921 حيث كرست كامل جهودها بعد ذلك لمقاومة الشيوعية. فبريطانيا عملت جهدها على إقامة الفاشية في إيطاليا 1922، والاخوان المسلمين في مصر 1927، والنازية في ألمانيا 1933 ولخيبة بريطانيا بمخابراتها الموسومة بالقذارة فقد تبيّن أن مشاريعها الثلاث التي بنتها كمصدات للشيوعية إنقلبت لتعمل ضد بريطانيا بصورة رئيسية ونجحت النازية في تفكيك امبراطورية بريطانيا الاستعمارية ولولا القائد الشيوعي العريق يوسف ستالين لكانت بريطانيا اليوم مستعمرة ألمانية وهو ما اعترف به ملك بريطانيا جورج السادس ورئيس وزرائها ونستون تشيرتشل.

أما الولايات المتحدة الأميركية فكانت الخرقاء الحمقاء إذ نقلت نظام الانتاج الرأسمالي إلى كوريدورات رياح الثورة الشيوعية في النمور الأسيوية الستة والصين فكان أن أدى ذلك إلى انهيارها دون أن تبني نظاماً رأسمالياً في تلك الدول، بل ودون أن تؤثر في انهيار منظومة الدول الاشتراكية خلافاً لما يعتقد الكثيرون.

بعد أن شبعت الليبرالية المؤسسة للنظام الرأسمالي موتاً برز مأجوران للرأسماليين حاقدان في ثمانينات القرن الماضي، رونالد ريغان في الولايات المتحدة ومارغاريت ثاتشر في بريطانيا يقودان سياسة إحياء الليبرالية واقتصاد السوق دون أدنى قيود (Neoliberalism) فكان أن رفسهما حصان عربة التاريخ بحافره الخلفي وطوح بهما بعيداً خلف العربة. النظام الرأسمالي حاصرته قوى التحرر والاشتراكية حتى اختنق في مراكزه في سبعينيات القرن الماضي ولن يعود إلى الحياة من جديد حتى لو برز لإحيائه مجندون ليسوا أغبياء كريغان وثاتشر. بعد انهيار الدولة الرأسمالية في مراكز الرأسمالية الكلاسيكية كان لا بد أن تقوم بدلاً عنها دولة الرفاه (Welfare State) وهي الدولة الاستهلاكية نقيض الدولة الرأسمالية. فإذا كانت الدولة الرأسمالية تعطي الثروة والغنى فدولة الرفاه تتسبب في الفقر وهو مرتع الفوضى التي هي موضوعنا ناهيك عن الإرهاب. مجندو البورجوازية الوضيعة بالأخص على شاكلة فرانسس فوكوياما ملأوا الفضاء زعيقاً يشيدون باليبرالية وبالسوق الحرة السائدين بزعمهم في عالم اليوم. الليبرالية بمظاهرها المختلفة كالديموقراطية البورجوازية والحريات الفردية وحقوق الإنسان لا يمكن أن تعيش في ظل الفوضى الشاملة التي تمسك بخناق مختلف المجتعات في العالم وهي الفوضى التي ينكرها متثاقفو البورجوازية الوضيعة وفشل في تأكيدها الدكتور سمير أمين وعلينا أن نؤكدها في مقالنا التالي.

ما يدهشني كل الدهشة أن الدكتور سمير أمين لم يعد يتعرف على حروف اللغة الماركسية. ففيما سماه أزمة حركات النضال من أجل "عالم آخر أفضل" يرى أن حركات النضال نحو عالم أفضل بمختلف ألوانها استسلمت لقوى الامبريالية !! وقائع التاريخ تقول العكس تماماً. في العام 1972 وجدت مراكز النظام الرأسمالي نفسها بلا محيطات تمتص فائض الإنتاج المتحقق فيها حيث كافة الدول المحيطية كانت قد استقلت بحماية مباشرة من الاتحاد السوفياتي، ومن المعروف تماماً وفق التحليل الماركسي أن النظام الرأسمالي لا يستطيع الاستمرار في العمل بدون التخلص من فائض الانتاج المجسد لفائض القيمة. حاولت الدول الرأسمالية الخمسة الأغني (G 5) في أول مؤتمر قمة لها في قلعة رامبوييه في باريس 16 نوفمبر 1975 أن تحل أزمتها القاتلة عن طريق القروض السهلة للدول المستقلة حديثاً وتنشيط التجارة مع الدول الاشتراكية لكن العلاج لم يجدِ فتيلا. فصدر عن المؤنمر إعلان رامبوييه (Declaration of Rambouillet) وهو لمن يلمّ بأوليات علم الإقتصاد ليس إلا إعلان نعي النظام الرأسممالي. سقوط الإمبريالية في السبعينيات كان من إنجاز مشروع لينين الاشنراكي وهذا ما لا يفقه فيه العامة. فيما بعد السبعينيات لم يكن هناك رأسمالية أو إمبريالية ؛ وما لا يعلمه سمير أمين على ما يبدو هو أن المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعي السوفياتي المنعقد في أكتوبر/نوفمبر 1952 بحضور القائد الفذ ستالين اتخذ قراراً يقول.. سينهار النظام الامبريالي في وقت قريب ؛ وقد نأخر انهيارة حتى السبعينيات بسبب انحراف خروشتشوف وسياساته في عزل الثورة الوطنية عن الثورة الاشتراكية خلافاً لمبدأ لينين في اعتبار الثورتين في وحدة عضوية غير قابلة للإنفصال.

ثورة التحرر الوطني 1946 – 1972 جاءت كاستمرار لجبروت الاتحاد السوفياتي في الحرب حيث كان المنتصر الوحيد فيها. لكن تلك الدول التي كانت قد أنجزت استقلالها السياسي ما كانت لتنجز استقلالها الاقتصادي بغير مساعدة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي. المأساة الكونية الكبرى التي لم تواجه البشرية مثلها من قبل كانت إنقلاب البورجوازية الوضيعة السوفياتية على الاشتراكية وقد ساعدها في ذلك العدوان النازي الكبير على الاتحاد السوفياتي وفيه تكبدت البروليتاريا السوفياتية معظم الخسائر فكانت هزيمتها تحصيل حاصل في مواجهة مارشالات وجنرالات الجيوش السوفياتية الجرارة بعد اغتيال ستالين. الإنقلاب على الاشتراكية انعكس في عدم قدرة الاتحاد السوفياتي على المساعدة حتى لو توفرت الرغبة.

مع انهيار الثورة الاشتراكية انهارت حركة التحرر الوطني فكان عشرات الانقلابات العسكرية الرجعية في الدول الوطنية في الستينيات ونجح أفّاقون من رجال العصابات في اقتناص السلطة كما تم في الجزائر وفي تونس وفي ليبيا ومصر والسودان وذات الشيء في اليمن والعراق وسوريا وباعتقادي أن المخابرات السوفياتية إن لم تكن قد شاركت في هذه الانقلابات فقد كانت راضية عنها. حكم هؤلاء الأفاقون رجال العصابات الجملكيات العربية لآكثر من ثلاثة عقود حتى كان الربيع العربي الذي أطاح ببعضهم وسيطيح بمن تبقى من هؤلاء الأفاقين.

لماذا الفوضى الكلية الشاملة تمسك بخناق العالم كل العالم وتحول دون التقدم الإجتماعي للبشرية جمعاء رغم إنكار دهاقنة البورجوازية الوضيعة، ولم ينجح أمين في تأكيده أو تعليله، هذا ما سنفصل فيه في المقال التالي.

&