&

لم تفقد الخلافة العباسية في نهايات زمن المتوكل، مركزيتها فقط بل نفوذها على بغداد وصلاحية خلفائها. فعندما تمكن الاتراك من السيطرة على بلاط الحكم والنفوذ على صلاحيات الحاكم، أصبح هامش السلطة أقوى منها. قتلوا الخلفاء، وجاؤوا بورثة أضعف. هو زمن وصاية الاتراك، وثم عهد البويهيين الفرس، وفيما بعد السلاجقة الاتراك، وبتعبير أدق زمن الخليفة الضعيف أو مسمول العيون فاقد الشرعية (من شروط الخليفة أن يكون صحيح الحواس).

وعلى الرغم من أن المقارنة بين زمنين متباعدين جدا امر صعب، وأن الخلافة العباسية ظلت تحتفظ بمكانتها الرمزية حتى في عصور انحطاطها، وبغداد لم تغادر كونها اشعاع الجدل والأفكار والعلوم حتى احتلالها من هولاكو، الا أن مقاربة ما، يمكن أن تجري بينها في ذلك الانحطاط وما نعيشه الآن من وضع تهيمن فيه الهوامش على المتن، والسلطات "الظل" على السلطة الرسمية.

الأحزاب العراقية، بكل انواعها، واجنحتها المسلحة وغير المسلحة، تمكنت من إدارة الامر بذات المنهجية التي كان عليها الاتراك والبويهيون والسلاجقة. هناك خليفة ضعيف وبديل أضعف منه، وحين يفلت أحدهم من هذه القاعدة، يذهب مستعينا بسلطة "ظل" ضد أخرى. هو لا يسترد مكانته، بل ينقل الوصاية من هذه السلالة الى ثانية. وهو ما حدث حين استعان الخليفة القائم بالسلاجقة ضد البويهيين... الأحزاب الراهنة، ومعها جماعاتها المسلحة، وسطوتها المالية وذرائعها المذهبية والقومية، تشكل اليوم السلطة الرديف، الأقوى والأكثر نفوذا والمرتبطة بدعم خارجي، تمارس ذات المهمة، هي الحاكمة الفعلية، والمؤسسات الشرعية المبنية على الدستور شكلية وضعيفة امامها، ويتم الاستعانة ببعضها ضد بعضها في الصراع الدائر!

استفادت الأحزاب الدينية والقومية وعموم أحزاب منظومة النهب، من المخاوف التي تولدت في زمن المالكي، حين سعى لابتلاع المؤسسات الدستورية، وجعلها رهن طموحاته الخاصة. تلك المخاوف من قيام دكتاتورية جديدة، كانت مبررة، لكنها في الوقت نفسه أعطت الفرصة والشرعية والمبررات لسلطة الظل بأن تضع البلاد تحت تصرف قيادة ضعيفة. الأمر برمته بات يدار بهذا الشكل.

وعلى الرغم من ان الأمريكيين حاولوا إعطاء زخم كبيرة للعبادي، وحظي بدعم واسع ضمن محاولات واشنطن منع نفوذ إيران، لم يفلح الرجل بالاستفادة من الأمر. وحين خوّلته التظاهرات، ودعمت مرجعية النجف المطالب الإصلاحية لها في 31 تموز 2015، لم يقم سوى بخطوة واحدة هي توجيه ضربة قوية للصقور الذين جاء بهم اتفاق الترضيات السياسية عند تشكيل الحكومة. ووجد الرجل نفسه حائرا في الصراع بين السيد الصدر والاخرين، والذي كانت التظاهرات بمرحلتها الثانية عنصراً رئيسيا فيه. ضيق خيارات العبادي أو ضعفه الشخصي، هو المطلب الذي سعت له&أحزاب محاصصة النهب وزعاماتها الشيعية والكردية والسنية. وهي بذلك أغلقت الطريق على حزم الإصلاح بإعلاء شأن وثيقة الاتفاق السياسي. والعبادي المسمول العين الان، بإسقاط أهم رموز حكومته وهو وزير الدفاع، لا يمتلك سوى الأمريكيين وسيلة لتدعيم بقائه بعد أن أصبح الأعداء اخوة في مخاصمته. لكن لواشنطن أيضا شروطها التي قد لا تقوي المؤسسات الدستورية، فهي تدعم صيغة الحرس الوطني بمواجهة مشوار الحشد الشعبي، وليس بعيداً انها تعمل على توزيع النفوذ العسكري على أساس الطوائف، بما يؤدي الى استمرار ضعف المؤسسة العسكرية العراقية. الشروط الامريكية حتى الان غير واضحة، على الرغم من انها الجهة الأكثر موثوقية نسبة الى الهيمنة الإيرانية والمحاولات السعودية والتركية.

العبادي يشبه الى حد كبير أولئك الخلفاء قصيري الفترات، ورغم أنه يحاول الخروج من القدر العراقي المستحكم، ما يزال يراوح مكانه، عاجزا بسبب عدم امتلاك استراتيجية تخرجه من قضبان الأزمتين المالية والأمنية، وسطوة الأحزاب والزعامات على الواقع.

المفارقة أن بصيص الأمل للخروج من هذه الحال، موجود داخل الازمتين المالية والأمنية. فكما أنها عنوان المشكلة، باعتبار ان لا عراق معافى مع التقشف ومع استمرار داعش، الا أنها أيضا سبب فقدان التوازن الذي تواجهه سلطة الظل. فهي لم تعد تمتلك المال الكافي، وأيضا أصبحت حرب داعش سبباً في الاستياء الشعبي الآخذ بالاتساع منها. الا أن الامر لا يصلحه الخليفة المنتظر بأمر الله أو لأمره، بل يحتاج الى سلطة بصيرة لم تسمل عيناها، لتعيد العراق لطريق شرعية بناء الدولة بإقليمين فدراليين كانت أو ثلاثة أو أكثر.