&
صدر تقرير الأمم المتحدة الأول للسعادة في العالم في عام 2012، حيث اعتبر زيادة نسبة السعادة مقياس مناسب للتقدم الاجتماعي، وهدف السياسة العامة للدول، فلذلك تعكس جهود الدول في التنمية على مدى رفاهية شعوبها. وقد احتلت النرويج في عام 2017 المرتبة الأولى لتتبعها الدنمارك وايسلندا وسويسرا، وتجمع هذه الدول الأربع اعلى ترتيب في العوامل الرئيسية التي تدعم الشعور بالسعادة، وهي رعاية الدولة لمواطنيها، والحرية، والكرم، والأمانة، والصحة، والدخل المادي، والحكم الجيد. وقد انتقلت النرويج من المرتبة الرابعة في عام 2016 الى المرتبة الأولى بالرغم من انخفاض سعر النفط، لذلك يقال بان النرويج حافظت على سعادتها ليس بسبب النفط بل بالرغم منه، وذلك بإنتاجها البطيء للنفط، وللاستثمار فيه للمستقبل، وليس للحاضر. ولتحقق النرويج كل ذلك احتاجت لدرجة عالية من الثقة المتبادلة بين الدولة والشعب، ومشاركة الهدف، والكرم، وجميعها عوامل وضعت النرويج في ترتيب قمة السعادة بين الدول. كما ضمت قائمة الدول العشر الأوائل أيضا فنلندا وهولندا وكندا ونيوزيلندا وأستراليا والسويد. وتلاحظ عزيزي القارئ بان الدول العشرة الأولى هي دول رأسمالية، ولكن لديها شبكة مسئولية اجتماعية عالية في الرعاية الصحية والتعليمية والاسكانية والتقاعد والتعطل. وقد سجلت إسرائيل المرتبة الحادية عشر، وكوستاريكا الثانية عشر، وامريكا الرابعة عشر مع أنها كانت الثالثة سابقا، وألمانيا السادسة عشر، وبريطانيا التاسعة عشر، وفرنسا الواحد والثلاثين. وتصدرت الدول العربية دولة الامارات المتحدة بترتيب الحادي والعشرين، والسعودية السابعة والثلاثين، والكويت التاسعة والثلاثين، ومملكة البحرين الواحد والأربعين، في الوقت الذي كان ترتيب ثيوقراطية الحكم الإيرانية ال 108 بين 155 دولة. بينما سجلت في آسيا سنغافورة ترتيب السادسة والعشرين، وتايوان الثالثة والثلاثين، وكوريا الجنوبية السادسة والخمسين، وهونج كونج الحادية والسبعين، والصين التاسعة والسبعين.
والغريب في هذا التقرير هو بأن تسجل اليابان المرتبة الواحد والخمسين في مؤشر السعادة، بالرغم من أنها من أكثر الدول تقدما اقتصاديا وتكنولوجيا واجتماعيا واخلاقيا، فهي ثالث اقتصاد عالمي، ومتوسط دخل الفرد فيها يزيد عن الخمسة والثلاثين ألف دولار شهريا، ويعتبر معظم شعبها طبقة متوسطة، كما ان نسبة البطالة منخفضة جدا إلى 2.9%، مع توفر رعاية تعليمية وصحية وسكنية متقدمة. ويبقى السؤال: ما سر انخفاض مؤشر السعادة بين اليابانيين؟&
& يبدو لي أولا، بأنه مع ان الأمم المتحدة وضعت مؤشرات للسعادة مرتبطة بحاجيات الانسان، يبقى من الصعب تعريف السعادة، فهل هي شعور نفسي إيجابي، بعيد عن القلق، والضغوط الحياتية المتعبة؟ أم هي حالة نفسية شخصية تتعامل مع ضغوطات الحياة بطريقة إيجابية هادئة حكيمة؟ أم هي قناعة حياتية لكل ما تجود به الحياة للإنسان؟ ام هي مرتبطة بفهم هدف وجود الانسان في هذه الحياة ومسؤولياته؟ وهل يمكن أن يكون الإنسان سعيدا وهو لا يملك الا القليل، أو يكون تعيسا وهو يملك كل شيء؟& وقد نحتاج لإثراء النقاش لأسئلة اضافية: هل السعادة حالة نفسية إيجابية تعكس حقيقة الواقع الاجتماعي للفرد؟ وهل تزيد نسبة السعادة في المجتمع حينما تكون هناك شبكة ضمان اجتماعية، تحمي الانسان من تقلبات الحياة، وتطمئنه على المستقبل؟ وهل تزداد نسب السعادة بالعدالة الاجتماعية وتساوي حقوق المواطنين، أم بتوفر الأمان والسلام المجتمعي، ومع الوظيفة والسكن والرعاية الصحية والتعليمة، مع أنظمة تقاعدية منصفة وتامين للبطالة؟ وهل ممكن أن يختلف مفهوم السعادة بين الشعوب لاختلاف ثقافاتها؟ وهل من الممكن ان تكون هناك شعوب منشغلة بعمق بمسئوليات عملها، ولم تعتني أصلا بمعنى مفهوم السعادة، مع أنها حققت تنميتها المستدامة، وجميع ضماناتها الاجتماعية، لأنها لم تعش حقيقة الظلم وانعدام الامن والسلام، ووقائع الفقر والتعاسة الاقتصادية منذ فترة طويلة؟
لنتذكر عزيزي القارئ أولا بان الشعب الياباني شعب أخلاقي منضبط، متواضع، ويحب البساطة والتناغم في الحياة، وقليل الشكوى وانتقاد الآخرين، مع انه شديد في النقد الذاتي، كما يرفض ان يبدو الفرد فيه مختلف عن باقي افراد مجتمعه. وقد قضى دمار الحرب العالمية الثانية صيت الشهرة والغنى في اليابان، بعد ان حرقت الحرب بقنابلها الكلاسيكية والنووية كل شيء، وحولت ظروف شعبها من التطور والثراء الى الفقر والمعاناة، ليصبح في المجتمع الياباني التناغم مذهب الجميع، فالتظاهر بالثراء والنجاح محرم، فهناك مقولة تقول: "المسمار البارز يجب ان يطرق بالمطرقة." بمعنى بأن يكون الشعب الياباني بأكمله افراد متساوون تقريبا في الصيت والثراء والعمل والسكن والتعليم والرعاية الصحية وأنظمة التعطل والتقاعد. فصيت الثراء شبه معدوم في اليابان، بل يستحي ان يبرز الثري صيت ثرائه او مركزه، بالإضافة بأن الثري يدفع نصف أرباحه ضرائب للدولة، لكي تصرف على الرعاية التعليمية والصحية للشعب، كما ان هناك ضريبة الإرث والتي تفرض أن تتحول نصف أصول المتوفي إلى ضرائب للدولة. وقد سألت بعض اليابانيين: لو سألت مائة ياباني هل هم سعداء، فما سيكون الجواب؟ فكان الرد بأن الياباني خجول ومتواضع وبسيط وقليل الكلام، ولا يحب ان يتحدث عن عواطفه في المجتمع، كما لا يحب ان يبدو مختلف عن باقي المجتمع. لذلك لو سألت ياباني ان كان هو حزين فالجميع سيرد بلا، لأنه يعتبر الحزن عاطفة شخصية خاصة ليست موضوع للحديث في المجتمع، إلا إذا كان أحد تعرض لمعضلة يتعاطف معها المجتمع، كمرض كلبه مثلا. ولو سألت مائة ياباني أيضا ان كان سعيدا سيكون جوابه متواضعا وبسيطا، حيث 90% سيكون جوابه لا، ويعكس ذلك بان السعادة عاطفة خاصة وداخلية ولا تعني له الكثير، لأنه مشغول بالإبداع والاتقان في عمله، والتفرغ لمسئوليات عائلته، وخاصة في ظل توفر شبكة اجتماعية متكاملة تحميه من غدر الزمان، فالوظيفة متوفرة وشبكة الاتصالات والمواصلات رائعة، والطبيعة جميلة جدا، مع التزام اليابانيين بصرامة بالقانون، والانضباط في الاخلاق والسلوك، بالإضافة لتوفر السكن والرعاية الصحية والتعليمية ونظام للتعطل والتقاعد. وفي نفس الوقت هناك فلسفة اليابانية تسمى بالهونه والتاتامايه، بمعنى ان تكون للإنسان عاطفتين، الأولى هي "الهونه"، بمعنى صدق الشعور العاطفي الداخلي، وهو شعور شخصي وسري في قلب الانسان، بينما "التاتامايه" هو تمثيل الشعور الخارجي الإيجابي للعاطفة في المجتمع للمحافظة على التناغم المجتمعي، بعيدا عن الغضب والانفعال. وهناك أيضا ظاهرة الانتحار في اليابان فحوالي عشرين إلف شخص ينتحر في اليابان سنويا بين مائة وسبعة وعشرين مليون من السكان، ومع ان هذه النسبة انخفضت عن قبل حيث كانت تزيد عن الثلاثين ألف. كما أن 19% من اليابانيين يعترفون بأنهم فكروا على الأقل مرة في حياتهم في الانتحار، ولو ان هذه النسبة كانت 25% من قبل. ولنتذكر بأن مفهوم الطهارة مفهوم مقدس في المجتمع الياباني ومرتبط ليس فقط بالنظافة بل أيضا بطهارة النفس والروح، واحد وسائل تطهير النفس والسمعة من التقصير او الذنب في اليابان، هو الانتحار. فمثلا حينما برزت شكوك في إحدى المدارس بان أحد المدرسيين ربما سرب الأسئلة للطلاب، اختفى المدرس عن الأنظار، وبعد شهر وجدوه شانقا نفسه على غصن شجرة في الغابة. وحينما برزت شكوك حول أحد الوزراء بان حسابات الصرف في حملته الانتخابية مشكوك فيها، اختفى الوزير عن اجتماع مجلس الوزراء، لتكتشف الشرطة بأنه شنق نفسه في شقته. وقبل حوالي عقد من الزمن شك في ان مهندس معماري تلاعب في كمية الحديد في القواعد الإسمنتية، فقامت الشرطة باعتقاله، فلم يستطع الانتحار لتطهير نفسه وتطهير سمعة عائلته، وهو متزوج ولديه طفليين، فقامت زوجته بالانتحار عنه لتطهير سمعة العائلة. وباختصار شديد انطباعي المتواضع عن موضوع السعادة في اليابان، هو بأن الفرد الياباني مشغول جد في حياته، فمتعة حياته الواجب والعمل، وهناك أكثر من مائة وخمسين وظيفة لكل مائة فرد يبحث عن العمل، كما ان هناك شبكة اجتماعية تحمي المواطن من غدر الزمان، ودستور دولته السلام، فليس هو قلق من حرب مستقبلية تأكل الأخضر واليابس، وكل مواطن يؤمن بواجبات المواطنة، ومرتبط بآداب السلوك والأخلاق العالية، كما لديه شبكة اتصالات ومواصلات متميزة. ولكي يفهم المواطن معنى السعادة يجب ان يعاني من مآسي التعاسة، ففي هذا المجتمع المنظم والمهدب والمسالم، هل للتعاسة وجود؟ ولنا لقاء.
طوكيو&
د. خليل حسن، كاتب بحريني