&ما الذي يدفع إعلامية قديرة مثل بولا يعقوبيان إلى ترك الإعلام، والسعي إلى دخول مجلس سيء السمعة، مثل مجلس النواب اللبناني؟ تعرف يعقوبيان أن هذا المجلس، تعرض، ولا يزال يتعرض إلى كل ضروب الشتائم. تعرف أنه مجلس بلا حياء، مدَد لنفسه مرتين، وكاد أن يفعلها للمرة الثالثة، لو لم يجد أن الاشمئزاز الشعبي منه قد بلغ حداً لم يعد يطاق. تعرف أيضاً، ونحن نعرف، أن شرائح اجتماعية واسعة من الشعب، لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب من النضوج، وأن الصناديق لا بد أن تعيد إلى المجلس الكثير من الوجوه الكالحة، أو أشباه هذه الوجوه، وتدرك أنه حين يحصل ذلك، سترتفع أصوات تقول: ألم نقل لكم أيها المنادون بالتغيير، أن الشعب هو من يريد هؤلاء الممثلين، فلماذا إذن، هذه الشكوى، وهذا النقد، وهذا الأنين؟ نعم وألف نعم، الشعب هو من يوجد هذا المجلس، هو المسؤول أولا وأخيراً، لكن النتائج، على أي وجه أتت، لن تحول بيننا وبين أن نطرح السؤال الآتي: هل أمام الشعب نظام يصوت على أساسه، غير هذا النظام الذي يفسد العقول ويعمي القلوب، ولا يخرًج إلا إقطاعيين وزعماء طوائف؟! الجواب طبعاً لا، فوضع هذا الشعب حيال هذا القانون الجائر، كوضع صائم لا طعام أمامه إلا طبق من عدس، يأكله حتى لو لم يكن من محبي العدس.

كل الأنظمة العربية يمكن أن تزول أو تتغير، إلا هذا النظام اللبناني. "هو نظام لا يمكن خرقه"، قالها يوماً فؤاد شهاب، أقوى الرؤساء في تاريخ الجمهورية. كان شهاب محبوباً، تخلى عن الحكم على رغم التأييد العارم له، لأنه أدرك بعدما انتقل من الجيش إلى قصر الرئاسة، أن الإصلاح في النظام اللبناني مستحيل! خلال أشهر سقط نظام صدام حسين، ونظام حسني بارك، ونظام معمر القذافي، ونظام زين العابدين بن علي، ونظام علي عبد الله صالح، واليوم يتعرض نظام بشار الأسد، إلى هزات، ليس بمقدور أحد تصور ذيولها. حتى السعودية، التي كنا حتى عهد قريب، نظن أنها أكثر نظام محافظ في المنطقة بدأت تتغير، بعدما قيض لها القدر أميراً جريئاً، تمكن خلال أيام معدودة، من إحداث تغيير جذري في هيكلها! حدث هذا في الشرق القريب، أما في الأقصى منه فقد نهضت الصين الهاجعة منذ مئات السنين، وأطلت على العالم بوجه جديد، وفي الغرب انهارت القوة العظمى التي كانت الإتحاد السوفياتي، وتساقطت دوله كأوراق الخريف، أما لبنان الذي طالما غناه الزجّالون "يا جبل ما يهزك ريح"، فلا يزال نظامه صامداً، لم تقو الأعاصير عليه، ولا أبواب الجحيم!&
قد يقول قائل إن الديموقراطية سر بقاء هذا النظام. هذا صحيح، لكن في الشكل فقط، أما في الجوهر، فهو من أسوأ الأنظمة في العالم. يكفي أن يكون البلد في قبضة حكام فاسدين، ملطخة أياديهم بدماء الأبرياء، كما الحال اليوم، لندرك مدى سوء هذه الديموقراطية اللبنانية! إنها ديموقراطية مصطنعة، في نظام لا أحد من أركانه وممثليه يستحق منصبه، أو يستأهل أن يكون زعيماً وطنياً، مهما حاول أتباعه وأنصاره أن يسبغوا عليه هذه الصفة. نظام لا ينتج زعيماً مثل ديغول، أو مانديلا، أو& تشرشل، أو شخصية شعبية محبوبة مثل إيفتا بيرون. النواب يأتون بالواسطة، أو بتزكية من زعماء الإقطاع الديني، أو العائلي، أو المالي، ومنهم من يرث المقعد مع دفتر عريض من الشيكات، فتعلو شعبيته أو تهبط& بقدر ما يوقع من شيكات يمنحها كهبات، وقد يحلو لأحدهم كما حصل، أن يقول إنه ليس "بيك"، أو ابن "بيك"، ليوهم الناس بأنه وصل بكده وتعبه ومواقفه الوطنية. يقول ذلك وفي ظنه أن الناس "مساطيل". ينسى أو يتناسى أنه موجود بحكم نظام طائفي، وأنه لو لم يشارك في حرب أهلية أ لما وصل، ولما بقي في المنصب الذي لا يزال يشغله كل هذه السنوات الطوال!&
&في بلدان الديموقراطيات الحقيقية، ينتخب الناس المرشحين حسب برامج تتناول عيشهم اليومي، من تعليم وطبابة وخدمات عامة، وضرائب وما شابه. يتنقل النائب بين الأقاليم على مدار السنوات، يخطب هنا ويحاضر هناك، يقول للناس ما يريد حزبه أن يفعل في هذه الدائرة أو تلك. أحزاب وحكومات، تقدر حاجات الناس، تحترم مشاعرهم وعقولهم. إما في لبنان "بلد الستة الآف سنة من الحضارة"، فلا يضطر المرشح أحياناً حتى إلى ترك بيته أثناء الانتخابات، لأن المقعد قد يأتيه منقاداً. يكفي أن يسجل الزعيم اسمه في اللائحة ليفوز، وأحياناً يبلغ طغيان الزعيم حداً لا يتورع فيه عن أن يقول للناخبين: "خدوها متل ما هيي"، أي انتخبوا ماعينت لكم وأمليت في هذه اللائحة أيها الناس، دون مراجعة!&&
كتبت الكثيرمن الكلام في الزعماء اللبنانيين الفادسين، من رأس الهرم إلى أدناه، وقلت إن أي مواطن لبناني يترشح في هذا النظام، أو ينتخب في هذا النظام، معناه أنه يزّكي هذا النظام، ويفقد بالتالي حق نقده في ما بعد، لأن تصويته في هذا النظام يعني أنه صار أحد صانعيه، تماماً كما يعني الدخول إلى حانة قذرة تزكية لصاحب الحانة. سأغالب مشاعري هذه المرة وأغير رأيي، بسبب كثرة المرشحين من النساء، والعدد المتزيد من الوجوه الجديدة، والأهم من كل ذلك، كثرة المرشحين الداعين إلى إقامة دولة مدنية، بديلاً من هذا النظام البغيض. نظام يضع شاعرة حرة مثل جمانة حداد في خانة مرشحة عن أقلية طائفية، ويضع إعلامية علمانية مثل بولا يعقوبيان، في خانة "أورثوذوكسية"! تصنيفات كلها تحقير للنفس البشرية بأبشع الصور، لا شيء فيها من رحاب "المقدس"، ومنبع الإيمان الصادق، صاغها خبثاء من رجال الدين ورجال السياسة، وفصلوا عليها نظاماً قائماً على الجبر، وأبعد ما يكون عن حرية الاختيار. مهما يكن، لا بد أن يذهب المواطنون والعقلاء إلى الصناديق هذه المرة، عل النتائج، تنتزع حجرة من جدار هذا النظام، وتدق مسماراً في نعشه.&
سمعت بولا يعقوبيان تتحدث في غير مناسبة، ورأيتها تخاطب المواطنين بلغة جديدة، وآمل إذا حالفها الحظ، وحالف الآخرين من ممثلي المجتمع المدني، أن يبقوا متكاتفين، حرصاء على الوعد أوفياء على العهد، ليكون لوجودهم في المجلس النيابي ثقل ورمز ومعنى، وإلا فإن الناخبين سيشمتون، ويعّيروهم بأنهم سقطوا في حبائل النظام، وصاروا مثل الآخرين! في لعبة كرة القدم يقول البرازيليون:" ليس المهم كيف تلعب، المهم أن تسجل الهدف"، أما الإنكليز فلهم قول مضاد مفاده: "المسألة ليست أن تربح أو تخسر، المهم كيف تلعب". أميل بالطبع، إلى ما يقول الإنكليز، وأقول للمرشحين عن المجتمع المدني أن يهنأوا، ولا يدعوا القلق يساور نفوسهم وضمائرهم، فهم، بما يدعون إليه للتو، يؤدون اللعبة جيداً، وإذا أسفرت النتائج عن سقوط أحدهم أو بعضهم، فذلك يعني أن الغالبية من الشعب هي التي سقطت وخانت الوطن، وتركت مصيره بيد صيارفة الهيكل ولصوصه، وصارت تستحق أن يقال فيها القول القديم، "على نفسها جنت براقش"، وتستحق إلى جانب ذلك كله، كل صنوف الإجحاف التي مارستها، وستظل تمارسها في حقها، هذه الطبقة من اللصوص والصيارفة.&
يبقى السؤال: ما الذي يريده المرشحون عن المجتمع المدني؟ ما أهدافهم وما هي آمانيهم؟ ماذا في عقل أحدهم، بولا يعقوبيان، المرشحة عن دائرة بيروت الأولى، التي اعتزلت الشاشة ولجأت إلى السياسة؟ نتركها تجيب بسرد قصير، ومن دون فواصل السؤال والجواب:
"ما دفعني للترشح، شعوري بأن البلد لم يعد يطاق. لبنان حسب هيئة الشفافية العالمية، يتصدر قائمة الدول الأكثر فساداُ في العالم. فساد على كل الأصعدة. غياب العدالة، سيطرة الأحزاب التقليدية على مفاصل الحياة السياسية برمتها، وكل حزب& يستفيد من وجود الحزب الآخر، ليحتفظ بقاعدته الشعبية وقاعدته الطائفية، وهذا كله، على حساب الناس وحاجاتهم المشروعة. ماذا بعد؟ أشياء لا تعد ولا تحصى: القمامة في كل مكان. الرشاوى في الإدارات، خصوصاً في الدوائر البلدية. رخص بناء تُمنح عشوائياً، تقتل ذاكرة بيروت، وتشوه وجه لبنان الأخضر. النظام الضرائبي شبه معطل. 9 سنوات من دون انتخابات، غابت فيها الثقة وغابت العدالة. غلاء المعيشة الفاحش، الهواء الملوث، والماء الملوث، والمواد الغذائية الملوثة. البطالة المتفشية بين الأجيال الناشئة من الشبان والشابات، وقد صار أقصى ما يطمحون إليه، تأشيرة خروج تأخذهم إلى المجهول.&
" لن أساوم على قناعاتي وتطلعاتي، وتطلعات الغالبية من اللبنانيين، وإيماني بالدولة المدنية التي هي أملنا الوحيد، للقضاء على الفساد، وتطبيق قواعد المحاسبة والشفافية على كل مواطن مهما كان شأنه. أنا مرشحة عن منطقة الأشرفية، وموقفي، وموقف زملائي المرشحين عن المجتمع المدني في المناطق الأخرى صار معروفاً. لو أردت المصلحة الشخصية، لقبلت عرض الترشح عن أحد الأحزاب التقليدية، وضمنت لنفسي مقعداً، لكن ليس هذا ما أطمح إليه. نحن ضد هذه الأحزاب كلها. لا نريد زعماء طوائف، ولا زعماء "روحيين" يقسمون البلاد شيعاً ومذاهب متنافرة. كلنا ذاهبون، ولا يبقى إلا الوطن، وهو فوق كل اعتبار وكل مصلحة شخصية. نريد لبناناً حراً مستقلاً، ومنسجماً مع رسالته التاريخية، ومتحرراُ من كل زعامة طائفية وإقطاعية. هذه الانتخابات، فرصتنا لتأكيد هذه الإرادة".
&
&