حوالى سبعة عقود عاش العالم منقسماً على ذاته بين قوى الرأسمالية وقوى الاشتراكية، وظلت شعوب الأرض ودولها تدور في فلكين متناقضين شكلاً، متعايشين مضموناً، فقد توحدت هذه القوى معاً في صراعها مع قوى العنصرية والاستعلاء بقيادة النازية، وكان هذا التعاون جلياً حد اقتسام النفوذ كدول لا كمبادئ. وفي حين راحت قوى الامبريالية تطور نفسها وتبحث عما يمنحها حق مواصلة الحياة والتطور، ظل أولئك الذين يسعون للقضاء عليها سعداء ببقائهم على الأرض دون محاولة منهم لتجديد الذات أو تطويرها أو معاودة قراءة الحياة بهذا الشكل أو ذاك. وبالرغم من أن الحرب الباردة قد جاءت للعالم بشبه سلام كاذب جعل الحروب في أقل مستوى لها، إلا أنها قادت بالنتيجة إلى انهيار جهة لصالح أخرى في ظل غياب أي قوة ثالثة قادرة على منع التفرد بالأرض وشعوبها، وتوارت بشكل أو بآخر قوى مهمة معتقدة أن تواريها سيمنحها مكانة ما وسلاماً ما وقدرة على البقاء.

البعض استكان تحت شعار "يا عمال العالم اتحدوا"، بعد أن أضاعهم وأضاع دورهم لصالح الفئة القائدة، وجعل من فكره أفيوناً لشعبه ومخدراً يلهو به حيث شاء تحت مظلة وسيطرة السلطة التي لم تعد تملك فارقاً عن أي سلطة أخرى، سوى أنها تعادي من لا يؤمن بما تؤمن ودون أن تجعل مما تؤمن به حقيقة، واكتفت بقناعة أن وجودها هي هو الهدف ولا هدف غيره، حتى وجدت نفسها تنهار وتتهاوى دون أن يأسف عليها أحد. وفي جهة أخرى، عاشت شعوب وأمم مكتفية بالدعاء لله ليكسر يد أعداءها ويمنحها النصر من عنده دون أن تفعل شيئاً سوى تقييد يدها برفعها إلى السماء دون فعل.

الصراعات العالمية التي غابت عن الوجود بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومن لف لفه، منحت الولايات المتحدة وعصابتها قدرة التلاعب بجهات الأرض كيف تشاء، فدمرت العراق وأخضعت كل الخليج العربي واحتلت أفغانستان وأطلقت العنان للخراب في كل دول الشرق واخترعت صراعات لم يكن لها وجود، وحولت فوبيا الشيوعية إلى فوبيا الإسلام وفوبيا الطوائف وفوبيا القوميات، وصنعت مجازر وحروباً لا أحد كان يعتقد أنها يمكن أن تكون، فاستباحت ليبيا ولا زالت، وتستبيح السودان ولا زالت، وأعادت مصر إلى الوراء سنوات وسنوات، وعاثت فساداً في سوريا واليمن وغيرها وغيرها، وليس لها من مصلحة على الإطلاق إلا بيع مزيد من السلاح والسيطرة على ثروات الشعوب والبلدان المتناحرة تحت شعارات وهمية كاذبة وغير حقيقية.

المصلحة الأولى لكل صناع الثروة هي المزيد منها، ومنع توزيعها واحتكار أكبر قدر منها، ولهذا لا بد في سبيل ذلك من ترويج تجارة الأسلحة وصناعتها عبر ترويج صناعة الموت لأسباب وأسباب، بدءاً من إشاعة الديمقراطية وانتهاء بانتصار الدين أو القومية أو الطائفة أو حتى الجهة أو الاعتقاد أياً يكن هذا الاعتقاد، في سبيل ذلك كان لا بد من زراعة التعصب الأعمى وحماية هذا التعصب بجيوش مسلحة وقوية وفاعلة وجاهزة لأن تقتل بعضها بعضاً بشكل أو بآخر.

إقرأ أيضاً: تفاحة نيوتن وصحوة غزة

لا قوة اليوم على وجه الأرض يمكنها أن تعيد صياغة الأرض إلا القاتل والمقتول كقوى منظمة، هم اليوم ليسوا العمال ولا الفلاحين ولا الطلبة وإنما الجنود المستعدين للموت دفاعاً عن وهم زرعه في رؤوسهم صانعو السلاح وناهبو الثروات، وهم أي الجنود، من يملكون القدرة على فعل ما لا يملكه أحد إن استداروا للخلف وأطلقوا رصاصهم على مشغليهم، أو امتنعوا عن تنفيذ أوامر القتل والموت لهم ولمن يقابلهم، وإذا لم يفعلوا ذلك اليوم، فقد يجدون أنفسهم كما وجدت الطبقة العاملة نفسها خارجة عن الخدمة بحلول الآلات الذكية مكانهم، وهو ما تسعى إليه اليوم قوى الشر التي تسعى لاستبدال الجندي الإنسان والطيار الإنسان بالآلي الجاهز للتنفيذ دون احتجاج، ومن يقمعون حراك الطلاب اليوم في أميركا من رجال الأمن لا يدرون أبداً أن ابناءهم هم من سيدفعون ثمن هذا القمع بعد سنوات ولكن على يد امبريالية المعرفة "الامبريانولوجي" والتي ستنهي دور الإنسان وأخلاقه وقيمه لصالح من لا يملك إلا قيمة الثروة والسطو على كل ما تقع عليه يده أو يد آلته المطيعة وغير القادرة على الاحتجاج أو الثورة.

اليوم، قبل استفحال عصر امبريالية تهميش مكانة الإنسان، لا زال بالإمكان التمرد والثورة على صانعي السلاح وأذنابهم من صانعي المحتوى المعرفي، وبعد أن صار بإمكان اللصوص ترك الشعوب تلهو بالاقتصاد السلعي لصالح اقتصاد المعرفة، وبعد أن اصبحت الرأسمالية مستعدة أن تتنازل عن فائض القيمة في الاقتصاد المادي السلعي لأصحابها مقابل الاستحواذ على القيمة الفائضة في اقتصاد المعرفة الذي مادته الخام الهواء وسوقه العقول، وبالتالي لا يرى المنهوب ناهبه ولا يدرك كيف يجري ذلك فيخضع لإرادة ناهبه ويشكره لما ترك له من مباهج الحياة.

إقرأ أيضاً: هل تصلح شظايا هذا العالم لعالم جديد؟

الجنود اليوم وصغار الضباط هم أصحاب القدرة على صناعة الثورة واستعادة الحق بملكية الهواء والمعرفة لأصحابها قبل أن يفوت الأوان، ويتم الاستغناء عن الجندي وضابطه كما تم الاستغناء عن العامل ومن يمثله لصالح الآلة الذكية، سيقود العالم الأذكياء بأدوات ذكائهم وما يصنعون ويصير الإنسان جزءاً من المستهلِك والمستهلَك دون أن يدري. فيا كل جنود العالم، استديروا للخلف ضد مشغليكم وقاتليكم الآن وقبل فوات الأوان، فإن الخلاص من مجموعة صغيرة من ناهبي خيرات الأرض ومروجي الموت أفضل مليار مرة من الخلاص من أبناء البشرية لصالحهم.

يا كل جنود الارض اليوم بالأمر الإنساني للمرة الأولى وقد تكون الأخيرة "للخلف دُر"، واطلق نيرانك على قاتليك، واصنع على الأرض السلام لأهلها لا لناهبيها، وإلا فإنَّ غدنا لن يكون به ألف عامل في مصنع ليثوروا معاً ويمتنعوا عن الإنتاج بعد أن تصبح الالة والروبوت سيد كل شيء، ولا آلاف الطلبة في جامعة بعد أن تصبح شاشة التابلت أو التلفون هي الجامعة ولا عشرات آلاف الجنود بعد السيارة الروبوت والطائرة الروبوت والصاروخ الروبوت ولن يجتمع ثلاثة ليهتفوا ضد الموت في اي مكان في الارض بعد غزة حين تصير الامم افراد لا صلة بينهم إلا الهواء ولصوص الارض أمة واحدة.