طريق الجحيم معبد بالنوايا الحسنة، أو الطيبة، مقولة تنطبق بشكل أو بآخر على ماجرى للعراق صبيحة يوم الرابع عشر من تموز عام 1958. فبقراءة بسيطة، ولكن متأنية، لسير الأحداث التي سبقت هذا التأريخ المشؤوم، ولأفعال الشخوص الذين ساهموا بأحداثه أو كانوا من ضحاياها، سنجد بأن حزمة نوايا طيبة تظافرت بطريقة دراماتيكية لتصل بنا وبالعراق الى تلك اللحظة، بغض النظر عن الخلاف المستمر منذ عقود بين فريقين من العراقيين، بعَوامهم ومثقفيهم، حول كيفية رؤيتهم لهذا الحدث وتقييم تأثيره على مصير العراق وشعبه، سواء على المدى البعيد الذي لا يُبَشِّر بخير،أو القريب الذي نعيشه اليوم بكوارثه ومخازيه ومهازله ومآسيه، كونها في جزء كبير منها من تداعياته، التي بات بإمكاننا أن نقيمه من خلالها كحدث فتح أبواب الجحيم على مصراعيها بوجه العراق.

فحينما وصلت معلومات الى الباشا نوري السعيد من مديرية الأمن تفيد بوجود شكوك حول اشتراك قاسم بتحركات مريبة ضمن تنظيم ضباطداخل الجيش لم يصدق الموضوع، لأن الأخير كان ربيبه وقد ساعدهالباشا كثيراً بمسيرته المهنية، لذا أرسل له بشكل شخصي، وحين دخلعليه بادره بالسؤال على طريقته البغدادية "ولك كرومي تريد تسوي عليَّ انقلاب؟" فاجابه قاسم " لا باشا شلون تصدك عَنّي هيجي حجي!“ فاجاب الباشا "المعلومات التي تحت يدي تفيد بذلك" فاجابه قاسم "هذه اشاعات مغرضة باشا لدق اسفين بينك وبين أبنائك الضباط". وبالتالي النوايا الطيبة هي بكل تأكيد ما دفع الباشا الى التعامل مع الأمر بهذاالتساهل، بدل الحزم والتحقيق الذي كان يفترض أن يأخذ مجراه في مثل هذه الحالة!

كذلك فعل الامير عبد الاله، وتعامل مع نفس المعلومات التي جاءته من مصدر آخر بنوايا طيبة، فأجاب ناقلها "احنا ما أذينا العراقيين، واذاقتلونا نروح شهداء كجدنا الحسين". ثم جائت غلطته القاتلة، حينما هَجمالعسكر على القصر، وكانت الكفة لا تزال لصالح الحرس الملكي الذي يفوقهم عدداً وعُدة، قبل أن يَصلهم الدَعم، حيث قال لآمر الحرس الملكيطه بامرني الذي سأله أن يعطيه الأمر بالقضاء على المتمردين "لا نريد لعراقي أن يقتل عراقي، فنحن جئنا بناءً على طلب العراقيين، وإذا كانوالا يريدوننا فليدعونا نغادر“. لكنه لم يكن يعلم بأنه يتعامل مع رعاع قتلة. لذا لو كان هو أو الباشا قد تعامللا بحزم مع هذه التقارير، كما فعلت الأردن وقضت على التمرد الذي كان مقرراً أن يحدث فيها بنفس الوقت، وهو في مهده، لما حدث لهم ما حدث، ولما بات العراق العوبة بيد العسكر وهواة الاحزاب الشمولية.

والنوايا الطيبة لرجال العهد الملكي واخلاصهم لوطنهم وشعبهم، هي التيدفعتهم لخلق وتوفير أجواء ليبرالية سَمَحت بالانفتاح على الأفكار الأخرى بمُختلف طروحاتها، حتى التي تختلف مع سياسة الدولة ورؤيتها لطريقة ادارة البلاد، لأنهم ليسوا شموليين، ولم يرغبوا بأن يكونوا أوصِياء علىأبناء بلدهم، بل أرادوا لهم أن ينشأوا بأجواء سليمة، هي للأسف التي سَمَحَت للشباب باﻻطلاع على كتب الآديولوجيات الماركسية والقومية،وسَهّلت للأحزاب الثورجية نَخر المجتمع العراقي بأفكارها العُنفية والتغَوّل داخِله، وعلى رأسها الحزب الشيوعي، الذي دَخَل مرة مُتخفياً ضِمن ما سمي بالجبهة الوطنية للمشاركة في انتخابات عام 1954، وتآمر مرة فيالخفاء مع العسكر لقلب نظام الحكم عام 1958.

لذا نقول لأنصار قاسم ومحبيه، ربما كانت لقاسم أيضاً نوايا طيبة فيما فعله، وربما كان بعض زملاءه مدفوعين بنوايا طيبة، حينما ظنوا بأن مصلحة بلادهم هي بالانقلاب على النظام الملكي، واستنساخ تجربةناصر أو لينين، رغم ما في عملهم هذا من غدر وخيانة للأمانة والقسم، وأنه كان كما تقولون نزيهاً يأكل بالسفرطاس وينام باليَطَغ، رغم سطحية هذا النظرة في الحكم على الأحداث والشخوص. لكن النتيجة كانت وستبقى كارثية بكل المقاييس، مهما حاولتم تزويقها، سواء بمقياس سوالف الكهاوي الذي تعتمدوه، أو بمقياس الإدارة والتخطيط والاقتصادوالثقافة والوعي! فلا فائدة من الاصرار على الخطأ، وتأليه شخصية قاسم العصابية، وتبرير خيانته لأسياده وإنقلابه على أصحابه الذين استغلوا غباءه لتنفيذ الإنقلاب، وتصويره بأنه فلتة زمانه، وتزويرالتاريخ لنسب انجازات غيره اليه، وتضخيم انجازاته وضربها في 100! فماحدث في 14 تموز فتح باب الانقلابات ورسخ ثقافة الشرعية الثورية لتغييرالحكومات بدلاً من الشرعية الدستورية التي كان سائدة في العهدالملكي، وحَوّل العراق الى غابة تتصارع عليها وفيها وحوش بصورةأحزاب شمولية تدعي الوطنية، كالحزب الشيوعي وحزب البعث، في حينلم يكن فيها حزب واحد بمنهاج وطني واضح يتبنى مصالح العراق كدولة ووطن، فجميعها كانت مستوردة لأفكارها من الخارج، وتتبع حكوماتالدول التي تحكمها أحزاب شبيهة لها. فكان الشيوعيون تبعاً لموسكو،ويريدون أن يلحقوا العراق بالمعسكر الإشتراكي. وكان البعثيون والقوميون تبعاً للقاهرة، ويريدون أن يتبعوا العراق بالجمهورية المتحدة. ثم جاء الإسلاميون، بسنتهم وشيعتهم، وتبنوا منهج الأخوان، ثم باتوا تبعاً لايران بعد نجاح ثورتها الظلامية، وهاهم اليوم يطبقون تجربتها المشوهة في العراق ويمضون به الى حضيض أبعد من الذي أوصله اليه انقلاب تموز، الذي فتح لهم الطريق الى ذلك. ولم يفكر أحدهم يوماً ماذا يريدالعراق، وليس ماذا يريد حزبي! لأن عقولهم تأدلجت لأفكار أحزابهم التي أفقدتهم بصرهم وبصيرتهم فلم يعودوا يرون غيرها.

بالتالي بامكاننا أن نضيف الى الأحداث التي سبقت صبيحة الرابععشر من تموز، والتي وثقتها كتب التأريخ وشهادات الأشخاص الذين عاشوها وعاصروها أضعاف ما ذكرنا، لكن النتيجة للاسف هي واحدة،وعلينا أن نقر بها ونعالج تداعياتها ولو إعتبارياً إذا كنا نحب العراق،سواء كنا من مُحبي الباشا والعائلة المالكة وأنصار الملكية، أو من مُحبي قاسم وأتباع الانقلاب، وهي أن هذا اليوم وبغض النظر عن دوافع ونوايامن ساهموا بقصد أو بدون قصد في حدوثه، كان بداية النهاية للعراق كدولة ومجتمع. فأخطاء النظام الملكي كان يمكن تصحيحها وتلافيها بالنشاط السلمي، مع بقاء أسس الدولة ونظامها الدستوري وقيمهاالليبرالية وسياستها الحكيمة، التي لو بقيت لما وصل العراق الى ماهوعليه اليوم، بدليل أن دوَل عربية ملكية لا تمتلك ربع ما يمتلكه العراق منموارد وامكانات سبقت العراق بأشواط، وهي اليوم من أكثر الدول العربية استقراراً ونهضة ونمواً، على عكس الدول الجمهورية التي سار ضباط العراق في ركبها وأرادوا تقليد ضباطها واستنساخ تجاربها باسقاط النظم الملكية، واستبادالها بجمهوريات يقودها العسكر ومجالس قيادات ثوراتهم، أو شباب حالم أو شقاوات، أو رعاع من قواعد الأحزاب الثورجية، لا علم لهم ولا فهم بادارة الدول وتنمية شعوبها، لذا دمروا اقتصادها وصناعتها وزراعتها، وأغرقوها في فقر مُدقع، وورطوها بمغامرات وحروب عبثية استهلكت مواردها وأنهكت شعوبها، وأعادتها قروناً الى الوراء، بل وقضت على بعضها ومضت بها الى الهاوية كما حدث ولا زال يحدث مع العراق.