يظل مصطلح المعاصرة مصطلح غامض يصعب معه الوصول الى معنى واضح الدلالة، وذلك إذا ما حاولنا تعاطيه من المنظور الواقعي بعيداً عن القيود المُعجمية، إذ أن تنوع استعمالاته تقود لكثير من الالتباس في المعنى المراد منه اصطلاحاً. فحيناً يشير الى شيوع الثقافات المتنوعة وتبني الوسائل المتقدمة في المجتمع، وأحياناً أخرى يرمز الى الإفادة من منجزات الفكر والعلم وتسخيرها لحاجات الإنسان وفق دلالات عصرية. لكن دعونا نتفق ولو صورياً على أن العصرانية تدور حول معايشة الحاضر بالوجدان والسلوك العصري.

وأياً تكون دلالة التعريف، فقد نوقع بمجتمعنا السعودي الظلم لو حاولنا القول بأنه مجتمع عصراني بالمعنى الحرفي للكلمة، كما أننا نخادع أنفسنا لو حاولنا إثبات عكس ذلك. إذ أن مجتمعنا لا يزال يعيش وفق مزيج من التقدم والعودة، وأمامه الكثير من المغاليق التي تحول دون بلوغه باب العصرانية الذي يقصده ويطمح اليه.&

ودعونا أيضاً نترك جانباً ما بلغناه من قفزات خلال السنوات القليلة الماضية، تلك التي يشهدها كلٌ من المجتمع الداخلي والدولي على أن المملكة حققت بالفعل نجاحات على مستويات التنظيم والمال، فعلى الرغم من أهمية ذلك، إلا أن النجاح على مستوى تغيير القناعات الاجتماعية أو المضي قُدماً نحو تحقيق ذلك، يُعَد (من جانبي) أكثر أهمية في الوقت الراهن. ذلك أن أي تفوق أو إنجاز في مسائل التنظيم والاقتصاد عادةً ما يُقابِلها قَدر من التشجيع أو المُباركة، في حين تُقابَل مسائل القناعات العامة أو الاجتماعية وبصورة أكثر حساسية من غيرها، بالكثير من الاعتراض أو المقاومة. فالمشهد أشبه ما يكون بالتدافع بين قوى التجديد التي تدفع بكل ما هو حديث وغير مألوف في سبيل حياة أكثر تنوعاً وتوزاناً، وبين قوى السكون التي تحاول إبقاءنا كما نحنُ دون تنوع أو إي إمكانية للتوازن الاجتماعي.&

إن ما نشهده من تنوع في طرح رؤى وأفكار كانت تُعتبر منذ سنوات قليلة خروج عن القيم الاجتماعية، لهو عمل يتسم برؤية صادقة جريئة آخذة من التغيير النافع للصالح العام هدفاً لها. تلك التغييرات التي أزعم أنها لم تكُن غائبة عن الأذهان بقَدر ما كانت مُغيبة (إن صح التعبير) نتيجة تسويرها بأيدولوجيات متزمتة لم تفعل سوى صِناعة مجتمع متأخر عن الكثير من دلالات العصر الحديث.&

هل كان يدور بخَلد أحدنا أنه من القوة والمنَعة بحيث يجرؤ على طرح أي من الآراء التي تدور حول فتح المسارح الغنائية، إدخال مناهج الفلسفة، فتح التجارة الحرة، إغلاق المحلات وقت الصلاة، قيادة المرأة للسيارة، والكثير من الآراء الأخرى الجريئة التي كانت حتى وقت قريب باعث لإسقاط القيمة الاجتماعية عن صاحبها أو القائل بها؟ أو ربما في حالات أكثر تشدداً تصل الى القول بتكفير أو زندقة صاحبها؟&

من جانبي، أرى أننا حققنا حرفياً وعملياً (وإن لم يصل بعد الى ذروته) إنجازاً على مستوى تبديل القناعات الاجتماعية في سنوات قليلة، ما عجزنا عن فعله خلال عقود كثيرة. ربما نكون بالفعل محظوظين، لكننا تجاوزنا على أي حال مغبَة الصِدام الأكثر خشية بالنسبة علينا. فالمساحة الفكرية اليوم أكثر تسامحاً تجاه الطرح مما كانت عليه في الأمس، والرأي الجريء أقل وقعاً على الصدور من سالف الأوقات.

لكن حقاً .. كيف يكفل المجتمع لنفسه ضمان بقاء هذه النزعة نحو التجديد؟ وهل في مقدرته فعل شيء كهذا؟

يبدو لي أن التدافع بين قوى التجديد وقوى السكون آخذة في التلاشي، إنما باقية ما دام في المجتمع أفراد مختلفين في نزعاتهم. غير أن قوى التجديد على الرغم من حداثتها، فهي تحمل روح العصر، وهذا ما سوف يفتح لها آفاقاً متنوعة ومساحاتٍ من الرؤى والطرح الجديد.&