&

يشكل هذا الكتاب "أنا والسينما" للكاتب الروائي إبراهيم عبد المجيد سيرته مع السينما وأفلامها وأبطالها من المخرجين والفنانين والمؤلفين وكتاب السيناريو والحوار، وهو يذكرنا بكتابه "ماوراء الكتابة: تجربتي مع الإبداع" وهو سيرة تتناول بالعرض التحليلي الملابسات التي شكلت أفكاره ورؤاه الروائية. وهنا يسرد الفن السينمائي منذ عرفت قدماه الطريق إلى دور السينما، ليربط السينما بالزمان والمكان والمناخ العام في ذلك الوقت في مدينة الإسكندرية خاصة وفي مصر عامة، ويكشف انعكاسات مشاهداته على تكوينه الإنساني والإبداعي، ويحلل الشخصيات والقصص، ليقدم رؤية متكاملة لشغفه بتجليات الفن السينمائي.
يقول عبد المجيد في كتابه الصادر عن الدار المصرية اللبنانية "لم تكن السينما مجرد فيلم شاهدته وعدت إلى البيت، لكنها كانت "مشوارا" رائعا مع أصدقاء أفتقدتهم في الحياة فيما بعد. مشوار رائع في طرقات وشوارع فقدت بريقها وجمالها ومدن تقريبا اختفت رغم أنها لا تزال تحمل أسماءها. السينما كما عرفتها تاريخ وطن وتجليات لروح ذلك الوطن.. لم أكن أعرف وأنا صغير أن دور السينما في الإسكندرية وراءها تاريخ طويل يمكن إجماله كله في أن الإسكندرية كانت المدينة الأولى التي تم بها أول عرض سينمائي في مصر وهو فيلم الأخَوان لوميير الفرنسيين الذي يعتبر أول فيلم في تاريخ السينما. اختار الأخوان لوميير أن يكون العرض الأول للفيلم خارج فرنسا في المدينة الكوزموبوليتانية الإسكندرية. كان ذلك في 5 نوفمبر عام 1896 بعد أقل من عام على عرض الفيلم في باريس في فرنسا".

يوضح عبد المجيد في مقدمته كل ما يتعلق ببدايات السينما كان في الإسكندرية مؤكدا أن للاسكندرية تاريخ طويل مع السينما فهي أصل هذا الفن الجميل الذي كان أحد أهم ملامحها الروحية، ومن أبرزمن أنجبتهم الإسكندرية الفنانة عزيزة أمير أول مخرجة في تاريخ مصر في فيلمها "بنت النيل" سنة 1929 وأول بطلة سينمائية بهيجة حافظ، واستيفان روستي وحسن فايق وفاطمة رشدي وزينات صدقي ومحمود مرسي وعمر الشريف ويوسف شاهين وشادي عبد السلام.
حول البدايات يقول عبد المجيد "أعجبتني سينما الهلال، فهي أيضا بتسعة مليمات، واسعة وكبيرة، المقاعد التي بتسعة مليمات تشغل أكثر مساحتها بينما التي بنص فرنك تشغل جزءا كبيرا من مساحتها الخلفية. فوجئت بالزحام شديدا جدا علي شباك تذاكر التسعة مليمات. زحام يصل الي درجة الشجار والضرب بين المتزاحمين. وقفت مع حسن هلال مندهشا وهو يبتسم ويقول لي لا تقلق سندخل، أخذ مني ثلاثه "تعريفة" أي قرش ونصف واشتري لي تذكرة من رجل قوي يقف بعيدا عن الزحام يبيع التذاكر التي بتسعة مليمات، يكسب فيها ستة مليمات، كان اسمه العريان، وكان هناك غيره يفعل ذلك لكن العريان كان مميزا بطوله وسمرة وجهه وقوة جسده، كان يستطيع بسهولة أن يدخل بين الزحام ويخرج ممسكا بعدد كبير من التذاكر أخذها من البائع الذي خلف النافذة ويجري مبتعدا ضاحكا، ثم ينادي علي التذاكر فيسرع إليه من لا يريد الزحام مثلي ومثل حسن هلال. كان الفيلم العربي واحدا من أفلام ليلي مراد، كان فيلم "شاطئ الغرام" الذي كان معها فيه حسين صدقي وتحية كاريوكا ومحسن سرحان وسميحة أيوب، كنت أيضا أحب أغنيات ليلي مراد. في هذا الفيلم رثيت لها كثيرا وحزنت من أجلها بسبب المؤامرات التي حيكت ضد حبها. لكني لن أكذب، رغم حبي لأغاني ليلي مراد وأفلامها وخصوصا مع أنور وجدي، لقد ظللت دائما أشعر أنها أكبر من أن تكون فتاة عذراء، وملامح وجهها لا تشي بذلك. ربما تكون أما أفضل من كونها فتاة محبوبة. لكن لاشك أن صوتها كان يشفع لها عندنا نحن المتفرجين كما لابد يشفع لها عند المخرجين، في النهاية كالعادة خرجنا سعداء من الفيلم وأحببت شاطئ مرسي مطروح وتمنيت زيارته يوما، حين زرته فيما بعد عام 1975 سألت عن صخرة ليلي مراد ووقفت عليها أمام الشاطئ.
ويلفت عبد المجيد إلى أن أفلام كاوبوي "لأودي ميرفي" فتنته وفتنت أصحابه "كان أودي ميرفي يملك وجها بريئا وبسمة الأطفال وجسدا صغيرا رشيقا. كنا لا نصدق أبدا أنه يمكن أن يقتل أو يطلق النار وتقول عليه " دا واد حليوة أوي " لكنا نتابعه في السينما دائما مدركين أننا سنري فيلما ممتعا. غير أودي ميرفي رأيت في سينما النيل أفلاما لجاري كوبر مثل فيلم "دالاس" ومعه روث رومان أو "حديقة الشر" له مع سوزان هيوارد وريتشارد ويدمارك وغيرها من أفلام الويسترن وكذلك أفلام لبيرت لا نكستر مثل "القرصان الأحمر" له مع إيفا بارتوك، أو "الشعلة والسهم" له مع فرجينيا مايو التي كانت قاسما أعظم في كثير من افلام الويسترن. كانت رشاقة بيرت لانكستر وخفة دمه تخترق أرواحنا ونظل نضحك ونندهش. كذلك فيلم "القتلة" مع أفا جاردنر وأيضا "فيرا كروز" الذي كان اسمه التجاري "صراع الجبابرة" مع جاري كوبر الذي كنا نذهب وراءه في أي مكان. وأفلام لجريجوري بيك مثل الفيلم الكبير "موبي ديك" وطبعا هو عن رواية هيرمان ميلفيل الشهيرة كما عرفت وقرأتها فيما بعد. و"ثلوج كيلمانجارو" له مع آفا جاردنر وسوزان هيوارد . أما الجميلة أودري هيبورن فمازلت أذكر لها في سينما النيل "إجازة في روما" مع جريجوري بيك و"سابرينا" مع همفري بوجارد وويليام هولدن. كذلك لا أنسي "الكونتيسة الحافية لآفا جاردنر" ومعها همفري بوجارد. كان لآفا جاردنر محب كبير بيننا هو صاحبنا الذي اسمه "كمال" يتتبع آفا جاردنر في السينمات ويخبرنا، ولا يمر شهر إلا ويقول لنا "ياللا الكونتيسة الحافية" في سينما ألدورادو . في سينما الهلال، في سينما الجمهورية.
ويشير "كذلك شاهدت أفلاما لكيرك دوجلاس مثل "رجل بلا نجم" و"طريق المجد" و"أوليس" الذي عرفت فيما بعد أنه عن ملحمة الأوديسا وقرأتها. لا أنسي كيرك دوجلاس وهو يسقي "السيكلوب" الوحش ذا العين الواحدة، من الخمر حتي يسكر ويفتح باب الكهف الذي أغلقه السيكلوب عليه وعلي بحارته ليأكلهم واحدا بعد الآخر. وكيف فقأ أوليس عين السيكلوب الوحيدة بعد أن فقد وعيه من السكر وهرب أوليس مع رجاله والوحش الذي صار أعمي يصرخ خارجا يبحث عنهم . ولا أنسي مشهد "السرينيات" حوريات البحر، تأتي أصواتهن بالغواية إلي أوليس وبحارته بعد أن أمرهم أن يسدوا آذانهم بالشمع ولا يفعل مثلهم، وأن يربطوه إلي صاري السفينة ليسمع السيرينيات لكن لا يمشي وراء أصواتهن ويموت في البحر، وكيف كانت فتنة الأصوات تكاد تجعله يمزق رباطه إلي الصاري غير قادر علي عدم الانصياع لإغراء أصوات السيرينيات ولم ينقذه إلا ابتعاد السفينة عن مكان أصوات السيرينيات. يا إلهي ما أجمل الأساطير! كتبت بعد سنوات طويلة مقالا شبَّهت فيه السيرينيات بالنداهة في التراث الشعبي المصري، تلك التي من يمشي وراءها لا يعود".
ويضيف "لماذا لا أنسي هذا الفيلم الذي رأيته في سينما الجمهورية؟ لأني بالاضافة الي واقعة النص فرنك وكونها أول مرة لي في هذه السينما أحب شادية جدا منذ الصغر حتي الآن. منذ الصغر استمعت إليها مع أختي الكبري وصاحباتها أو مع أمي وصاحباتها وكلهن يحببن شادية فكيف لا أحبها. كما أن شادية صوتها جميل يصل إلي القلب بالفرح والبهجة. وأن تري شادية أمامك تغني فهو أمر رائع في سن مبكرة. ولقد رأيتها منذ سن الخامسة، أي يوم دخولي السينما لأول مرة بعد أن تركت "الروضة" أتمشي في الشارع. أتذكر علي الأقل تسعين بالمائة من أفلام شادية إذا لم تكن كلها. بل أتذكر أيضا السينمات التي رأيتها فيها ففي سينما الدورادو رأيت فيلمها "لحن الوفاء" مع عبد الحليم حافظ و"شباب امرأة" مع شكري سرحان وتحية كاريوكا وفي سينما الهلال رأيت كثيرا من أفلامها منها "حب من نار" مع شكري سرحان و"التلميذة" مع حسن يوسف و"المرأة المجهولة" مع كمال الشناوي و"شاطئ الذكريات" مع شكري سرحان وعماد حمدي و"وداع في الفجر" مع كمال الشناوي. وبالمناسبة هو الفيلم الذي ظهر فيه حسني مبارك في كلية الطيران يعطي درسا للطيارين في حرب 1948 مع إسرائيل وكان صغيرا. بعد أن صار رئيس جمهورية لم يعد هذا الفيلم يظهر في التليفزيون. في سينما الهلال أيضا شاهدت لشادية فيلم "الزوجة السابعة" مع محمد فوزي و"بنات حوا"
مع محمد فوزي ومديحة يسري وإذا مشيت في السنين فقد رأيت لها فيلم "الزوجة 13" بسينما ريتس و"اللص والكلاب".
أما سينما الهمبرا التي صارت أحيانا تأتي بفيلم عربي مع الفيلم الأفرنجي فرأيت لها فيها فيلم "الطريق" مع رشدي أباظة، فيلم "المعجزة" رأيته في سينما أمير. سينما الدرجة الأولي في الاسكندرية وكانت هذه مغامرة مني إذ أعطاني أبي ربع جنيه كاملا ذات مرة. كنت تجاوزت الثانية عشرة من العمر، ورأيت أفيش الفيلم أمامي وترددت لكني أشتريت سيجارتي بلمونت، ودخلت السينما التي يبلغ ثمن التذكرة فيها أربعة عشر قرشا، خرجت منها في التاسعة بعد حفلة السادسة مساء، فدخلت محل الأسماك الموجود في محطة مصر في العمارة التي أعلاها مكتب محامي شهير في أول شارع إيزيس، وهو المحامي الذي قيل أنه كان سببا في حكاية محمود أمين سليمان الذي أسمته جريدة الأخبار بالسفاح، والذي استقي نجيب محفوظ من حكايته رواية اللص والكلاب، كانت الحكاية رائجة حولنا ذلك الوقت لكني لم أكن أعرف التفاصيل كما عرفتها فيما بعد. كنت أعرف الحكاية مما يقوله الكبار حولي، فقد كانت شائعة، والكلام فيها لاينقطع لأن جريدة الأخبار كانت تنشر تقريبا كل يوم خبرا عن السفاح. كانت في أغلبها أخبارا غير حقيقية جعلت من الرجل سفاحا خطيرا، مما أشيع عنه وقتها أنه حاول سرقة فيللا أم كلثوم وهدد الموسيقار محمد عبد الوهاب بالقتل. بل قيل إنه طلب من جمال عبد الناصر أن يتركه يذهب إلي العراق ليأتي له برأس عبد الكريم قاسم حاكم العراق الذي كان علي خلاف سياسي مع سياسة عبد الناصر القومية، ولايري معني للوحدة إلا بعد أن تتقدم البلاد العربية، بينما كانت الوحدة قد تمت بين مصر وسوريا. من أعجب الحوادث أنهم في مدرستي الإعدادية "طاهر بك" أخرجونا يوما بسرعة من الفصول لنعود قبل انتهاء اليوم الدراسي إلي البيت، والسبب أن السفاح مرّ من أمام المدرسة في شارع المكس مسرعا علي فرس! كلما تذكرت ذلك اليوم وكيف خرجنا نجري في الشارع الواسع ونضحك ونخاطب كل من نقابله "شفت السفاح عدا علي الحصان". أقول كلما تذكرت ذلك اليوم أقول لنفسي كان الأولي أن تؤخر المدرسة من خروجنا لا أن تخرجنا مبكرا، لكنها كانت بحق أجمل مدرسة. سبحان الله عاقب جريدة الأخبار بخطأ لا أتصور أنها تقصده، فنشرت مانشيت علي سطرين يوم مقتل السفاح في إبريل عام 1960. السطر الأعلي كلمتين بالبنط الأحمر الكبير "مصرع السفاح" وتحته خبر "عبد الناصر في باكستان" هكذا كان يمكن قراءة المانشيت دون فاصل مصرع السفاح عبد الناصر في باكستان، مما أدي إلي ماجري للأخبار وغيرها من تأميم، وما جري لمصطفي أمين وأخيه علي أمين فيما بعد، من اتهام بالتخابر مع أميركا والسجن.