يُعتبر أيُّ منبهٍ خارجيّ بالنسبة إلى دماغ الإنسان تيَّاراً كهربائياً، وبمعنى أوضح يُعتبر شيئاً غير مفهوم. سواء أكان هذا التنبيه صورةً أم صوتاً، لا يهمّ، فهو مُبهم ما لم يتمّ تحويله إلى سيَّالة عصبية. فالسيَّالة العصبية هي لغة الدماغ الوحيدة، وأي شيء خارجي لا بدّ من تحويله لكي يصبح مقروءاً على سطح قشرة المخّ.
حواسنا الخمس، أو آلياتنا الحسيّة، هي مجسَّاتنا في فحص الخارج ونقله إلى عقولنا، وهي المصدر الوحيد الذي يمدّنا بمادة الإدراك الأولية. وتصوّرنا لهذا العالم يرتكز بالدرجة الأولى على ما تمدّنا به من منعكسات حسيّة، وبالتالي فإن رسم أيّ صورة للمحيط الخارجي مرهونٌ بقدرة الحواس، وضمن إمكاناتها المتاحة. وجميعها - أي الحواس - قادرة على القيام بعمليات التحويل.&
فعلى سبيل المثال يقوم العصب البصري بتحويل التنبيه الكهربائي إلى سيّالة عصبية، وهو بذلك يلعب دور "الصرّاف" الذي يقوم بعملية تبديل عملة أجنبية غير مسموح التداول بها بعملة محلّية.&
وعملية الصرافة هذه تماماً كالإدراك، فهي قد تُفقد العملة الأجنبية قيمتها الفعلية، لكنها بالمقابل قد تمنحها قيمةً أكبر بكثير من قيمتها الحقيقية. وهذا حال الإنسان في تكوين المفاهيم وإعطائها معانيَ وقيماً فضفاضةً وغير مستحقَّة، وبالعكس إهمال قيم أخرى أكثر أهمية!
يظنّ البعض بأن العين البشرية لا تخطئ، وبأنه يمكن الاعتماد عليها كوحدة قياس دقيقة. لكنَّ هذا غير صحيح.&
فمن يُصاب بتلف في الشبكية يرى أشياء برّاقة لا تخصّ الواقع. ومن يصاب بالهلوسة البصرية يرى توابعَ وشخوصاً من عقله لا من الواقع. وبالتالي فإن مشاهدات كلّ منهما لا تُؤخذ على محمل الحقيقة.
إمكانات الإنسان في احتواء هذا الخارج، ذهنياً، محدودة للغاية. فعلى سبيل المثال لا يستطيع الإنسان تمييز الألوان في العتمة والظلام كما يفعل ذلك في النور، ولو كان قادراً على ذلك لرأينا السماء في الليل متَّشحة بعديد الألوان، ولرأينا الكواكب زرقاء وحمراء كما هي في قصص "السندباد". والإنسان أيضاً لا يستطيع سماع صوت الانفجارات في الكون لأنها أعلى من العتبة السمعية لديه... والأمثلة كثيرة ولا تقتصر فقط على الإدراك، بل تطال كذلك كل ما هو ذهنيّ كالتصوّر والتجريد والخيال.&
إنَّ محدودية الإدراك قد أدَّت بالضرورة إلى محدودية المخيّلة لأنها نتاج للإدراك الحسيّ.&
لدينا هذه التجربة التي أُجريت على مجموعة من الأطفال حديثي الولادة.&
فقد عُرضتْ على هؤلاء الصغار عشرُ صورٍ لوجوه إنسانية في تسعٍ منها يكون الوجه بملامحَ عشوائيةٍ ومبعثرةٍ، وواحدة فقط تحمل وجه إنسان متماسك وطبيعي، والنتيجة كانت أن جميع الأطفال توجّهوا إلى هذه الصورة متجاهلين الصور الأخرى. وهذا يعزز القاعدة العلمية القائلة: "إنّ الإنسان مفطور للتعامل مع أنماط محدَّدة مسبقاً".
وفي تجربة أخرى، طُلِبَ من أطفال، أكبر سناً من أطفال المثال الأول، رسم صورة متخيَّلة &لـ"الشيطان". وكانت النتيجة أن جميع الرسومات مثّلت تجميعاً لأطراف وأجزاء حيوانات مؤذية وسامَّة كالذئب والثعبان، ولم يخرج أحد مطلقاً عن قاعدة الشيء المألوف.
والعبرة هاهنا تكمن في أن قطار مخيّلتنا مهما أسرع أو حاول الجنوح فإنه لن يسير أبداً إلَّا على سكّته المرسومة له مسبقاً.
لقد ظنَّ الأقوام القدماء، كما يرى كارل يونغ، بأن الشمس هي من تُري الإنسان طريقه. فعين الإنسان مجرّد شيء زائد (إكسسوار) لا عمل له لأن الشمس هي من يبصر عنه. بمعنى أنهم فهموا الشمسَ كعينٍ كلّيةٍ للبشر.
اليوم يدرك الإنسان الحديث بأن الشمس هي مصدر النور لا غير &في مسألة الرؤية، أو هي أهم مصادره، والإنسان يبصر بمساعدتها لا من خلالها، لكنه مع ذلك ظلَّ متأثراً بذاك العقل القديم الذي كان يخترع الخرافة ومن ثم يتعامل معها كمفاهيم مطلقة، ولا يزال يتفاعل مع ظواهر الطبيعة بالعقلية الانفعالية والمستهجنة ذاتها.
بدأ الإدراك بالصورة التي تحوّلت إلى فكرة، وصارت الفكرة مفهوماً وترسَّخت مع مرور السلالات البشرية، والكثير من المفاهيم بُنيت على أساس خاطئ، وظلّت كذلك! فهي وإن تمَّ دحضها علمياً ما زالت محافظةً على الحالة الانفعالية الأولى التي أدت إلى تشكيلها.

&باحث وكاتب سوري.