يقول جان بياجيه إنَّ الأطفال الصغار ليسوا أغبى أو أقلّ ذكاءً من الكبار، لكنهم يفكّرون بطريقة مختلفة.

وبمعنى آخر فإن لديهم لغتهم الخاصة بهم، وعلى هذا فهم يصدّرون أفكارهم ويعبّرون عنها بطرق مختلفة عن تلك التي يتعامل بها من هم أكبر منهم سنَّاً.
فالطفل الصغير يعمل (يبني ويرسم ويتصوّر)، ولكنه نادراً ما يتكلَّم. وبالتالي فإن علم النفس المعتمد بالدرجة الأولى على الإفصاح والبوح والتحدّث قد لا يعطي النتائج المرجوَّة في مثل هذه المرحلة العمرية من حياة الإنسان.
لذلك كان لا بدَّ من ابتكار وسائل جديدة، متجانسة مع هذه المرحلة، قادرة على فهم لغة الطفل هذه ومحاكاته من خلالها.
لقد لاحظ أحد المجرّبين، من خلال مراقبته لطفل في عمر الخامسة كان يلعب بكرةٍ صغيرةٍ، ما يلي:
كان الطفل يرمي بالكرة باتجاه الجدار ومن ثم يقوم باستردادها، وكانت هذه اللعبة تسليته الوحيدة ريثما تعود والدته من العمل. وكانت تبدو على وجهه معالم الحزن والأسى عندما كان يقذف بالكرة بعيداً عنه بينما كانت تعود الفرحة والابتسامة إلى وجهه عندما كان يتلقى الكرة المرتدَّة من الجدار!
لقد مثَّلت هذه اللعبة محاكاته الذهنية لمشكلته المتمثِّلة في غياب أمّه عنه طيلة النهار لذهابها إلى العمل، فكان عندما يرمي بالكرة يودّعها وعندما يتلقَّاها كان كأنما يتلقى أمَّه ويحتضنها!
مثل هذه اللغة يشترك فيها الذهن والجسد معاً، وهي بالمناسبة واحدةٌ من لغاتٍ عديدةٍ يستخدمها الأطفال في بداية تكوينهم المعرفيّ.
وبعيداً عن كون الرسم موهبةً يتميَّز بها قلَّةٌ من الأطفال دون سواهم، إلا أن جميع الأطفال يحبّون الإمساك بالقلم وجميعهم يقومون بالرسم، وهذه "الخربشات" تمثّل محاولاتهم الأولى في تشكيل الهوية المعرفية لديهم. وقد قام علماء النفس باستثمار موضوع الرسم أفضل استثمار في اختبار نفوس الأطفال وفي تنمية مداركهم وعقولهم وتوسيع آفاقهم.
فابتداء الطفل مشواره المعرفيّ بالرسم، لا يعني بالضرورة أنه سيصبح رسَّاماً في المستقبل، وهذا ما فهمه علماء النفس عندما جعلوا من الرسم أداةً للقياس والاختبار والتطوير الذهني.
فعلى سبيل المثال، عندما يقوم الطفل برسم الأشخاص في لوحته بأحجام ضخمة ومبالغ فيها، أو عندما لا يرسم إلا الأبطال والمحاربين... فنحن هاهنا أمام إشارة من الطفل يتوجَّب متابعتها. فالطفل الذي يعاني رهاب مواجهة الآخرين والإحساس بالخطر الدائم يرسم رجلاً بعضلات مفتولة لكي يحتمي به ويختبئ وراءه في مواجهة مخاوفه، فتكون رسوماته كذاك "المقصّ" الذي تضعه الأمُّ تحت وسادة ابنها لكي تطرد به كوابيسه!
وعندما تقوم طفلةٌ برسم الثياب في لوحتها بعددٍ كبيرٍ من الأزرار، فهذا يوحي بأنها فتاة إتكالية وكسولة. وجميعها أمور من الضروري متابعتها والكشف عنها ومحاولة تقويمها من خلال اختبارات الرسم والروائز وغيرها.

هذا بالنسبة إلى الطفل عندما يرسم، ولكن ماذا عن الطفل المسرحيّ؟

يعتقد ليف فيكو تسكي بأن النشاط التفكيري عند الإنسان يبدأ بـ"المونولوج"، أي عن طريق خطاب الذات بصوت مرتفع (طبعاً هذا يخصّ مرحلةً عمريةً متقدّمةً عن المرحلة التي تحدّثنا عنها في البداية). حيث يقوم الطفل من وقت إلى آخر بهذا النشاط، ولفترة من الزمن، معبّراً من خلال هذه الحالة المسرحية عن كل ما يجول في خاطره من تصوّرات ومخاوف وغير ذلك.
بعض الأطفال يقومون بهذا علناً، بينما البعض الآخر يختلي بنفسه ويفعل ذلك في السرّ. لكن، وبعد مرور فترة من الزمن، لا يعود الطفل يُبدي مثل هذا السلوك، ولا نعود نسمعه أو نراه يفعل ذلك. لكنه هنا لا يتوقف عن ممارسة المونولوج بل يقوم بعملية نقله إلى عقله على شكل حوار ذهني غير مسموع، أو يمكن تسميته بالتفكير، وهو مقدّمة لمجال أوسع وأكثر تعقيداً.

لمتابعة هايل شرف الدين على فيسبوك https://www.facebook.com/profile.php?id=100010514447348