&

منبر الكتّاب منظمة ثقافية برلينية يستطيع الكتّاب ان يقرءوا فيها على الجمهور نصوصاً و قصصا على ان لا تكون قد نُشرت سابقا. الهدف تقديم مقترحات و ملاحظات من قبل الحضور للاستئناس بآراء الآخرين أو ، اذا شاء الكاتب ، اجراء تعديلاتٍ على النص.

هنا قرأت النسخة الالمانية من قصتي القصيرة "الأغاني الزجاجية".

الجمهور هنا يتكون من ثلاثة اقسام : نقاد، متذوقون للادب و كتّاب. النقاد و الجمهور موقفهم من النصوص اكثر موضوعية من الكتاب ، الذين تكون ملاحظاتهم في الغالب غير بناءة و اعتباطية.

الاغاني الزجاجية

منير العبيدي

في درس الرسم رسمت ألينا زهورا بألوانٍ مائية ، تولاي واصلت رسمَ مشهدٍ طبيعي : قارب و انعكاس صورته في الماء عند الغروب، خديجة رسمت تجريدا و امينة اصرت على رسم رمان على خلفية حمراء نبيذية رغم اعتراضي لان العمل سيشبه لوحاتي ما ان اصلح فيه قليلا و هو ما باتوا مدمنين عليه. - هل تحبون ان تسمعوا موسيقي؟

ـ .......

ـ اي موسيقى؟ سألتهم -...... - حسنا سأبدأ بهذه! وضعت تلفوني الخلوي وسط المنضدة التي تحلقوا حولها يرسمون و بحثت عن اغنية "first day of my life" الصوت كان ضعيفا و لم نسمع بوضوح. ذهبت امينة الى الخزانة و اخرجت قدحا فارغا كبيرا مخصصا للنبيذ الاحمر. كانت فيه قطرة جافة حمراء من بقايا كأس سابق يشبه لونها خلفية لوحة الرمان و وضعت تلفوني الخلوي في القدح فتضاعف صوت الاغنية فسمعنا بوضوح اغنية ثانية ثم ثالثة و رابعة . قلت لها : فكرة جيدة!

.....

في يومٍ من ايام الصيف زرتُ سوقَ المواد المستعملة. في احد الاكشاك رأيت بائعةً عجوزاً و قد عرضت على منضدة طويلة اشياء قديمة : كتباً متآكلة ، ملاعق و شوكاتٍ فضية ، أقداحاُ غريبة الاشكال

و الاحجام . من ضمن ما عرضت وجدتُ مسدساتٍ قديمة جدا ، مقوسة بقبضة خشبية ثقيلة و نقشات معدنية، من ذلك النوع الذي شاهدته في افلام القراصنة. حملت واحدا من المسدسات باليد اليمنى وصوبته نحو صدغي و ضغطت على الزناد . انزلت يدي متجهما و قلت للسيدة : " لا يعمل! انا لا ازال على قيد الحياة" و اعدت المسدس الى مكانه. ضحكت السيدة بارتياح و قبل ان اغادرها محبطاً قالت : "بدلا من أن تنهي حياتك اشرب نبيذا و تمتع". التقطت من بين معروضاتها قدحا قديما جميلا يتماشى شكله مع مسدسات القراصنة . "ربما شربوا منه يوما نبيذا مسروقا" ، فكرتُ . قالت "خذ هذا القدح هدية مني". شكرتها و ودعتها معيدا الابتسامة لوجهي.

......

هذا هو القدح الذي اختارته امينة من بين عديدٍ و وضعت فيه الهاتف . انتهى وقت الدرس. حملت هاتفي و اسكته. لملمت حاجاتي . هم نظفوا فرش الرسم و اعادوا كل شيء الى مكانه : اللوحات غير المنجزة على الطاولة ، المساند تحتها بعد ان طُويت و القدح الذي رنّت فيه الأغاني في الخزانة و غادرنا.

........

اليوم هو الخميس. انه اليوم الذي يلي درس الرسم توجهت الى مشغلي . انا الآن عند باب المشغل . ادرت المفتاح ، فتحتُ البابَ و دخلت. كانت ثمة موسيقى خافتة تأتي من خزانة الصحون . فتحت الخزانة. بدا الآن و كأن الموسيقى تأتي من القدح الفارغ الذي تضاعفت على سطحه نقطة النبيذ الجاف و اصبح مغطىً بدوائر حمراء داكنة طرزت سطح الزجاج و انتشرت عليه بنسق و ايقاع. حملت القدح و قربته من اذني فبات الصوت اقوى. لم يعد عندي شك ، الموسيقى تأتي من القدح! وضعت القدح على الطاولة و بدأت عملي . تعاقبت صادرةً منه الاغاني و الموسيقى التي احبها : كونشيرتو البيانو الثاني لرحمانينوف، الخامس لبتهوفن ، اغنية احبها لنجاة ، النيل نجاشي لعبد الوهاب... سار العمل على ما يرام . وقت استراحتي حل. لا اعرف كيف اُسكت القدح. وضعته مجددا في الخزانة. لا يزال مسموعا. اخرجته ، غلفته بقطعة قماش و اعدته الى الخزانة. أصبح الصوت مخنوقا و لكنه بقي مسموعا ، يشبه حشرجة انسان يموت. تقلبت ، شعرت بعدم ارتياح ، لم استطع ان انام قيلولتي. قمت ، اخرجت القدح من الخزانة و سرت به نحو المطبخ . مرت بي فنانة يقابل مشغلها مشغلي. رأت القدح بيدي و هو يغني. نظرت الي باستنكار كما لو كنت مشعوذا.

في المطبخ غسلت القدح ، ازلت نقاط النبيذ الجافة باسفنجة و عرضته لدفق من ماء الحنفية. القدح لا زال يغني و لكن غناءَه بات غرغرةً. حاولت اسكاته و انا افقد اعصابي شيئا فشيئا. وضعت يدي على فوهته ، صدرت منه همهمة، دفع اصابعي ، انزلق من يدي و سقط على ارضية المطبخ و تناثر. العشرات من القطع باتت تغني اغاني مبعثرة متضاربة غير مفهومة. بعضها تحول الى عويل و آخر الى صفير. بمكنسة و مغرفة لملمت حطام الزجاج فالتمت الاغاني و باتت مركزة و لكنها متضاربة مثيرة للاعصاب. وضعت الاغاني الزجاجية في كيس ، احكمت شده. نزلت بواسطة السلم متجنبا أن يراني احد . وضعت الكيس في حاوية القمامة. تركت مكان الحاويات و الصوت لا يزال يصدر من هناك. سرت عائدا الى مشغلي و الصوت يخفت و يخفت حتى اختفى. انا الان في مشغلي . تمتعت بهدوء مريح. و قبل أن ابدء العمل من جديد، سمعت دقاً على باب المرسم، فتحت الباب و وجدت المسئول عن البناية ينظر الي باستفهام و في يده الكيس الذي لملمت فيه الزجاج المتكسر. كتبته في الخميس السابع عشر من ايار من العام الثامن عشر بعد الالفين في مشغلي بدار الاتيليهات ببرلين