أخذت سيرة عمار علي حسن الذاتية التي صدرت مؤخرا تحت عنوان "مكان وسط الزحام" من فن الرواية الطريقة أو الأسلوب السردي، وأحيانا البنية أو المعمار والتشكيل، وأخذت من السيرة ما يجب أن تنطوي عليه من صدق ووصف للواقع وشرح للتجربة الذاتية كما وقعت لصاحبها، أو تراءت له.

ويبدو أن الكاتب لم يضع تصورا في رأسه ابتداء لمثل هذا النوع من الكتابة، لكنها خرجت على هذا النحو، فمن يقرأ تلك السيرة بإمعان فقد يكتشف أنها اعتمدت على الاستطراد أو تداعي المعاني، وبالتالي لم تخضع للطرق التقليدية في كتابة السير، التي عرفناها عند كثيرين، سواء كانوا أدباء وكتاب أو ساسة ودبلوماسيين وقادة عسكريين ورجال أعمال .. الخ.

إننا أمام تجربة في الانتصار على الشدائد، بطلها كاتبها، الذي كان طفلا شبه متوحد، متعثر دراسيا، ثم لم يلبث أن تفوق ليشق طريقه في التعليم إلى نهايته، ويكون بوسعه أن يحكي لنا في كتاب يربو على ثلاثمائة وخمسين صفحة من القطع المتوسط كيف واجه الفقر واليأس والغربة والوقوف على مشارف الموت مرات، وكذلك تجاربه في الأدب والفلاحة والصحافة والبحث العلمي والحب والجندية والدراسة والصداقة، والكفاح من أجل الحرية والإبداع، والترقي في المعيشة.

هناك بالطبع من يعتقدون أن السيرة الذاتية لأي منا يجب أن نكتبها في آخر العمر، لكن من منا يضمن أجله، ولكل أجل كتاب، كما أنني أتذكر أن طه حسين كتب سيرته التي عنوانها بـ "الأيام" وهو في أواخر الثلاثينات، ولم يجد ناشرا، فظلت في درج مكتبه، شهورا طويلة، فلما نشرتها الصحافة، أقبل عليه ناشرون يطلبونها، فرأت النور وهو في الأربعين من عمره. وطلب من عباس محمود العقاد أن يكتب "من وحي الخمسين" وفعلها، وأردفها بـ "من وحي الستين"، ونشر هذين الجزءين في سيرته التي كتبها فيما بعد بعنوان "أنا". كما أن حياة الكاتب غير حياة السياسي أو الجنرال الذي يتمهل في كتابة سيرته ليكون حرا في قول ما يريد عن أشخاص عمل معهم لا يزالون على قيد الحياة، أو وقائع تخص الدولة إن قالها الآن فقد تكون مضرة.

والمهم في نظري أن تكون التجربة قد وصلت إلى حد النضج، وما يدرينا أن تكون التجربة الذاتية، حين تصاغ بأمانة وصدق، هي من أهم ما يقدمه كاتب للآخرين، بل أحيانا تكون الأهم في مشروع بعض الكتاب مثلما نرى في كتاب "الخبز الحافي" للمغربي محمد شكري. وأعتقد أيضا أن "أيام" طه حسين ستبقى خالدة إلى جانب كتب أخرى له مثل "في الشعر الجاهلي" و"مستقبل الثقافة في مصر" وروايته "المعذبون في الأرض".

تبدأ هذه السيرة بفقرة لافتة تقول: "أدخلت نفسي المدرسة، ليخرجني أبي منها بعد خمس سنوات، فيعيدني أحد المدرسين إليها، برغبة مني، ولو أن عزيمته تراخت في إرجاعي، أو استسلمت أنا لضغط أبي، وكان ذا جبروت علينا، لتغير مسار حياتي تمامًا، فلم أزد عن أن أكون أجيرًا ينكسر ظهره في حقول الفلاحين تحت الشمس المستعرة، أو عامل تراحيل يجلس على قارعة الطريق في مدينة متوحشة في انتظار من يشير إليه بطرف إصبعه، فيهب مسرعًا إليه، ليجد ما يضعه في قعر جيبه، ويملأ به بطنه، بينما ابتسامة خجلى تجرح شفتيه المقددتين من طول الانتظار والأسى، ولو حسن حالي لصرت تاجر حبوب يجول على الزراعات بحمار يئن تحت ثقل المحاصيل التي يجمعها، ويذهب بها إلى السوق، متطلعًا في لهفة ورجاء إلى الداخلين". وهذا المدخل المشوق صاحب السيرة في تطورها، لاسيما مع روح السرد التي حفلت بها.

وحين سألت الكاتب بنفسي عما دفعه لكتابة سيرته تلك، أجابني بأنه قد تحدث ذات مرة في برنامج تلفزيوني عن طرف من شقاء أيام الصبا، فوجد كثيرين يطلبون منه أن يكتب هذا، وأنه يبين تفاصيل تجربته التي صبر فيه وكافح وجالد، ليقدم مثلا للجيل الجديد، الذي علينا أن نمنحه الأمل في إمكانية التقدم في الحياة عبر رعاية الموهبة وتعزيز المهارة والدأب والمثابرة والصبر.

يبدو الكاتب هنا معتزا بمسيرته ولا يخجل من أن يتحدث بصراحة عن أيام الشقاء والفقر والحرمان التي عاشها في طفولته وصباه، وكيف كافح في سبيل أن يجد لنفسه مكانا وسط الزحام. وربما كلمة "وسط" في العنوان تعبر عن أن صاحبه يرغب دوما في أن يبقى بين الناس، وهذا ليس بمستغرب منه لأنه يردد دوما "الناس هم الأساس"، وكان يقول لي حين نتناقش إن أمثالنا يجب أن يكافحوا ليفسحوا لأجسادهم المكدودة مكانا في هذا الزحام الرهيب.

في الحقيقة فإن أيام الشقاء تلك أمدت صاحبها بمخزون لا يزال يأخذ منه ويدفعه إلى سطور قصصه ورواياته، فضلا عن تأملاته في علم الاجتماع السياسي بشكل عام، وهي مسألة يجب أن يتسم بها أي كاتب وباحث حتى تأتي كتابته عميقة معبرة نابتة من بين الناس.

وتظهر السيرة أيضا ارتباط صاحبها بالأماكن، وامتنانه حيال كل شخص قدم له العون في رحلته، ورغبته القوية في التصدي للفقر بشتى صنوفه، المادية والمعنوية والمعرفية والذوقية، كي يحيا الناس في مجتمع أفضل، وهي مسألة لم يعرضها لنا في دراسات أو مقولات نظرية إنما عبر تجربة من لحم ودم، تتوالى فيها مشاهد عمله في الأرض طفلا يقاوم الآفات وشابا يزرع ويعزق ويحصد، وعمله في المعمار منذ أن كان في الصف الثالث الإعدادي وحتى تخرجه في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، حيث يحمل الطوب والزلط والأسمنت إلى الأدوار العليا، ويهدم بيوتا قديمة تكاد تنقض ليسهم في بناء جديدة مكانها. ونراه أيضا وهو في قطار الدرجة الثالثة واقفا على قدم واحدة في رحلة قدومه إلى القاهرة للالتحاق بالجامعة بعد توفقه في الثانوية العامة، ونراه وهو يواجه صعوبات جمة بعد تخرجه كي يجد عملا يناسبه، وصعوبات أخرى سبقت نشر أول كتاب وأول رواية وأول مجموعة قصصية، وصعوبات واكبت مواصلته لدراساته العليا.

اللافت أن هذه السيرة قد ركزت على الجوانب الإنسانية لصاحبها، ولم تأت على ذكر التجربة السياسية له والمعروف ارتباطه بها، وحين سألته قال لي إنه أفرد لها كتابا خاصا صدر عام 2012 تحت عنوان "عشت ما جري .. شهادة على ثورة يناير" تناول الممارسة السياسية له منذ أول مظاهرة شارك فيها عام 1985 وحتى قيام ثورة يناير وما تبعها من أحداث. وأتصور أنه قد أحسن حين أبعد السياسة باستقطاباتها واحتقاناتها عن سيرته تلك، لتعبر تجربته الانحيازات والأيديولوجيات وتنزع أكثر نحو الجوانب الإنسانية الحافلة بالقواسم المشتركة بين البشر.