يتطلَّب الاحتفاظ بسرّ ما مجهوداً نفسياً معيّناً على المستوى الواعي الشعوري. ويزداد هذا المجهود ويتناقص بحسب حجم وأهمية الشيء المراد كتمانه عن الآخرين. لكنَّ المسألة تصبح أكثر صعوبة وتعقيداً عندما نقوم ولسنوات طويلة بالاحتفاظ بعدَّة أسرار لا نعرفها ولا نتذكرها حتى إننا لا نعرف بأننا نكتنزها! لكننا بين الحين والآخر نستشعرها ونحسّ بثقلها في لاوعينا. هذا النوع من الأسرار هو نتيجة لعمليات لا شعورية تسمى "الكبت".
يختلف الكبت عن القمع في التعامل مع الرغبات التي تحاول الولوج إلى الأنا الشعورية.
فالقمع هو أداة بيد سلطة الأنا الواعية الشعورية، بينما الكبت هو أداة بيد سلطة أخرى (قبل شعورية) تُسمَّى "المقاومة". وكلا هاتين الأداتين تمثّلان عمليتين نفسيتين، إلا أن القمع شعوري واعٍ، بينما الكبت لا شعوري أو قبل شعوري.
يضاف إلى هذا الاختلاف أن الرغبات التي تواجه القمع تكون سافرة وواضحة، فيتم بكل بساطة وضع "الذئب" في القفص، وذلك عندما تكون الأنا الواعية الشعورية بصدد رغبة جنسية أو عدوانية غير مقبولة إجتماعياً.
بينما تكون الرغبات التي تواجهها "المقاومة" وأداتها "الكبت" مستترة ومتنكّرة على طريقة "الذئب يرتدي ثياب الحمل"، فتأتي الرغبة مبهمة الهوية حتى أننا لا نشعر
بقدومها، أو أننا قد قمنا بكبح جموحها وكبتها، لكننا على الأغلب نتعامل مع نتائجها.
عندما نشعر بخوف مبهم وغير مبرَّر من لا شيء ندرك بأن ثمّة معركةً طاحنةً تدور رحاها بين الهو اللاشعورية وبين المقاومة. وينبغي لهذا "الهو" أن يصير "الأنا"، لكي يتحرَّر الإنسان من أهم مسبّبات عصابه (مرضه النفسي) ومكبوتاته (أي الأشياء التي يكبتها ولا يعلم ما هي)، ويتم ذلك من خلال تعويم الشيء اللاشعوري إلى سطح الشعور.
يضاف إلى مسبّبات العصاب عملية نكران الواقع اللاشعوري من قبل المقاومة.
لكن ما هي هذه المقاومة ولحساب من تعمل؟
المقاومة نظام نفسيّ تحت شعوري يتمثَّل بالامتناع الأخلاقي التام عن الاعتراف بالعنصر المكبوت أو بأحقية أية رغبة جنسية أو عدوانية بالولوج إلى الأنا، لذلك تكون قوته متناسقة تقريباً مع قوّة الميول التي يقوم بكبتها.
إنَّ طرفَي الصراع في معارك الكبت هما جيش الغريزة الراغبة في اجتياح الأنا، وجيش المقاومة المانعة لها بالاقتراب من الأنا (بشكلها وهيئتها الحالية الجامحة). فيما تكون الأنا الشعورية مغيّبة تماماً عن هذه الحرب الدائرة من أجلها، لكنها أيضاً ستكون الوحيدة التي ستتحمَّل تبعاتها.
وكلما خرج محارب من صفوف"الهو" يقابله فارسٌ يساويه في القوة والثقل من صفوف "المقاومة". وهذا كلّه يستهلك مجهوداً نفسياً ويهدر طاقة هائلة في هذا النزاع الذي كان من الممكن تجنُّبه منذ البداية، أي قبل تكلّس الأنا الأعلى.
تمثّل الدوافع المكبوتة الناحية الظلماء من الإنسان فهي إمتداد لإرثه البدائي اللااجتماعي الذي لم يصعّد بعد (أي الذي لم يتم تهذيبه وإخراجه بشكل لائق اجتماعياً وشعورياً) وهي أيضاً رغباته المحظورة الدائمة التوثّب "كأشباح الأوديسا" في إحدى روايات "هوميروس".
أما في ما يخص جذور الكبت فإنها تعود إلى الطفولة الأولى، وإلى خوف الطفل القديم من "الخصاء الأبويّ".
فالكبت هو كل ما تبقّى من آلية محاولة الطفل تهذيب رغباته بشكل سليم، وذلك بعد الهدنة غير المعلنة في عقله مع أبيه: "أنا سأتوقف عن عشقي لأمّي، شرط أن لا تقوم بخصائي في المستقبل". هذا الخصاء الذي سيصبح رمزياً في ما بعد، يخشاه الرجل في أي شيء يقوم به في حياته خصوصاً إن تمّ عن طريق الأنثى.
وفي النهاية الخوف (من لاشيء) هو الإشارة الوحيدة المتبقية لحصول الكبت.

باحث سوري في مجال علم النفس التحليلي.