&المعروضة الآن في الحي الثقافي كتارا، صالة رقم ٥، قطر، الدوحة ديسمبر 2018

الصور المرفقة: اللوحة كاملة مع اربعة صور تفصيلية لها

&

بقلم& تغرید هاشم

بدعوة من الحي الثقافي كتارا في العاصمة القطرية الدوحة، أقيم للفنان العراقي المغترب عمار داود ـ يعيش ويعمل في السويد ـ معرضا شخصيا سيستمر ما بين ٥ ديسمبر و ٤ يونيو، يحتوي المعرض على تسعة لوحات، تميز أغلبها بالحجم الكبير، وقد اخترت في هذا النص أن أسلط الضوء على لوحة واحدة من اللوحات المعروضة، وهي بعنوان: الحياة، ارتفاعها ٢٠٠ سنتمتر وعرضها ٢٥٠ سنتمتر، بتقنیة الاكریلیك على القماش، تعرض لنا: غرفة یتواجد فیها شخصان ونافذة، الغرفة مؤثثة بما یعكس مظاهر البذخ والحال المیسور، إلا ان نافذتها تطل على فضاء مقفر وكئیب، تتقدم مشهدها حلیة ضخمة بأحجار نبیلة حمراء وزرقاء، الشخصان المتواجدان هما فَتیان في مقتبل العمر، یقفان على جانبي الغرفة ویرتدیان ملابس فاخرة ذات أقمشة حریریة واوشحة، نرى ایضا، منادیل وریش وزهور وزخارف، وعلى مقربة من الفتى الواقف على الیمین تستقر جمجمة بشریة، وضعت على سطح منضدة قرب النافذة، المیزان الذي یمسكه في كفه الیسرى یظهر علیه اختلال بسیط في التوازن، وعلى راحة یده الیسرى نشاهد أنف كروي الشكل وأحمر اللون لمهرج، بينما إنتصبت على أرضية الغرفة دمیة آسیویة الملامح تجلس على كرة، هناك ایضا هدهد استقر على الكف الایمن للفتى الثاني الواقف على الجهة المقابلة والذي یمسك بمندیل بیده الیسرى، الفتیان یتمیزان بوجهين صقیلين وبملامح ناعمة لینة، أطرافهما طویلة ورشیقة وواثقه، تتحرك بأشكال دراماتیكیة مفتعلة، الفتى الذي یقف على الجانب الأیمن یعتمرعمامة كبیرة وثوب أزرق داكن اللون مطرز بزخارف دقیقة في نصفه الأعلى، خصره مشدود برباط، ویرتدي سروالا أصفراً، یتمیز كلا الرباط والسروال بتدرجاتهما اللونیة التي ابرزتها الظلال والأضواء المعكوسة، يحتذي مداسا بني اللون، حاملا وشاحا طویلا على ساعده الأیمن.
لننتقل بنظرنا الآن إلى الجانب الأيسر، والذي هیمن علیه الفتى الثاني الذي یحمل تقریبا ذات الملامح والملابس التي تعود لرفیقه على الجهة الأخرى مع تغير بسيط في الألوان والحركة، سنجده حاملا هدهدا على كفه الأيمن ومندیلا اسودا في كفه الأيسر. الخلفية مغطاة بریش ومنسوجات ناعمة ملونة وزخارف نباتية محبوكة بدقة، تعكس حرفية الفنان العالية وتناغم مفرداته.
ترسم اللوحة ملامحها العامة من خلال ما یشبه العرض المسرحي وتداعياته: مشهد متداخل، ربما هو أشبه ما یكون بشاشات القنوات الإخباریة التي توزع ما تبثه بفوضى من خلال نوافذ عدیدة لملاحقة ما یجري حول العالم في وقت واحد، تستفزنا تفاصیل اللوحة، وتدفعنا الى الشعور بوجود رموز وأحداث لحكایة ما، تستمد محمولاتها شیئا فشیئا من خلال انتقال بصرنا بین مفرداتها.
ستستقر جمیع عناصر اللوحة على أرضیة تبدو في حالة حركة بسبب ما یظهر علیها من ظلال لاشیاء خرجت عن سكونها بشكل یثیر الحیرة والتساؤل، وعلى الرغم من أن خطوط هذه الارضیة أنیقة وناعمة ولینة الا اننا نشعر ان الفنان استثنى بعض من الأشكال من حیازة هذه اللیونة وهي بالذات تلك الاشكال التي تشبه بقایا أغصان یابسة، احتلت المشهد الخلفي نافذة، ستطل على ما یحقق تضادا مع مظاهر الحال المیسور، لتذهب بنا الى مزاج آخر، وذلك بسبب احتوائها على طبیعة مجدبة والوان مائلة إلى الحمرة، وذات سحنة كئیبه، اتخذت النصف العلوي للجانب الخلفي الایمن مكانا لها، سنجد فیها جبلا استقر على ارضیة حمراء داكنة، طغى علیه اللون البني الغامق والأحمر بتدرجاته اللونیة، انه مشهد ملتبس، یسجل لنا حدثا مشوشا، الخطوط التي ترسمه مازالت لینة، مع ظلال وضوء معكوسين على السطوح.
هل هو يا ترى مشهد بركان؟ صیغ من قبل الفنان باشكال ذات نمط شكلي إنسيابي ليخفف من حدة الصدمة؟ خصوصا إذا تعرفنا على ما تتسبب به البراكین العنیفة التي تقوم بنشر جزیئات الغاز وسدیم الرماد والغبار في الطبقات العلیا من الغلاف الجوي، الأمر الذي سیؤدي إلى غروب للشمس یتوافر على لون أحمر أرجواني وردي وبرتقالي أكثر من المعتاد، وهو ما قام الفنان بتحقیقه في هذا المشهد.
یتعمد الفنان في لوحته هذه الى الإخلال بقوانین فیزیاء المكان وطبائع الأشیاء، وذلك عن طریق تضخیم بعض المفردات وتصغیر الاخرى، هذا بالاضافة الى خلق أبعاد إفتراضیة وهمیة لكلا المشهدین والتي وضعها لیقربنا من الحلم دون الواقع.
إن هذا العمل بتفاصیله الدقیقة في آن، والموزعة بطریقة غریبة في آن آخر، یذكرنا بشيء من سمات اتجاه ( المانيریة )، وهي إحدى مدارس الفن التي ظهرت في أوروبا ما بین عصر النهضة والباروك، ویمكن تلخیص سماتها في أنها تهتم بالمبالغة التقنیة إلى حد تقصدها لذاتها والاستغراق في التأنق وتشذیب الأشكال والغرابة التعبیریة، ثم التركیز على رشاقة الأشخاص، والمیل إلى تطویل الأطراف، وتصغیر حجم الرؤوس، وتتعمد منح ملامح الوجوه دقة وتنمیق مبالغ بهما، في حین یتخذ الأشخاص أوضاعا مسرحیة استعراضیة شدیدة التعقید، مما یصعب محاكاتها في الواقع. اضافة الى تغلیب عامل التسطیح والاستغناء عن المنظور، بحیث تظهر مفردات العمل من أشخاص وأشیاء كما لو كانت تكوینات دیكوریة زخرفیة مضافة إلى خلفیة مختلة الأبعاد، بالإضافة إلى النزوع نحو استخدام الوان حارة ذات سطوع لوني عال والتخلي عن الألوان الهادئة، مع اعتماد أسلوب شبه عشوائي في توزیع عناصر اللوحة وإضفاء عامل الغموض واحیانا اللامعقولیة في العلاقات بینها، مما یؤدي الى تمیزها بالسرانیة وتعرضها إلى شتى التأویلات. إن كلا من عالمي داود: المترف، والموجود داخل الغرفة، ثم الموحش، الظاهر من خلال نافذتها، ینقلاننا إلى مشاهد متباینة لأماكن مختلفة تنتسب ـ اذا ما اردنا إحالتهما لواقعنا ـ الى حالتي التقدم بمظاهره الباذخة في آن، وحال البؤس فيما يخص العالم النامي في آن آخر، لكن بأي معنى؟

یقول أندریه جید : “ ان الحقائق مختبئة وراء الاشكال الرمزیة وكل موجود هو رمز للحقیقة وكل مایقع تحت الحس ویظهر انما هو الرمز ​​“​ .
​​فعلى الرغم من تصریحات داود، بأن العمل الفني هو لیس اكثر من لعبه الزج العبثي للمفردات داخل فضاء اللوحة، وشرعنة وجود هذه المفردات لأسباب تتعلق بالبنیة التكوینیة التي تتطلب إدخال بعض منها دون سواها، او بسبب البنية الخيميائية لتوليد وتشكيل العناصر داخل اللوحة، إلا أن اختیار الفنان لمفردات بعینها یحیلنا إلى استنباط الحال الوجداني والنفسي له، والذي یقف وراء اختیار بعینه دون آخر. فبلاشك أن اهتمامات عمار داود بفیزیاء الكم، وما اتت به من نظریات ومعادلات، وصفت نتائجها بالجنون فیما یتعلق بعالمها الأصغر او ما يسمى بما تحت المجهري، والتي اعطتنا نتائج من الصعب على العقل المنطقي أن یصادق علیها، وبالأخص تلك المتعلقة بمبدئي تعدد الاحتمالات وعدم الیقین في حولیات عالمها، مما تسبب في أن تقف البشریة إزاء إشكالیة تصیبها بالدوار، الا وهي إشكالیة المقاربة مابین العالم الأكبر، وهو الذي یمكن قیاسه والتنبؤ بما سیؤول إلیه، والعالم الأصغر، الذي لا یمكن قیاسه بشكل یقیني ولا یمكن التأكد من ما یمكن ان یؤول الیه، وهو باعتقادي ما سیقودنا بدوره لفتح باب التأویل مشرعا على عدد من الاحتمالات التأویلیة، فالأول، وهو الأكبر المتخم بالتفاصیل الدقیقة المنظمة، مقابل الثاني، النقیض والمتعدد الاحتمالات، الأمر الذي سیعزز رغبتي في احالة المشاهد للتمعن بما یحدث من حولنا في عالمنا الواقعي المعیش.
إن المفردات التي استخدمها الفنان لتحدید هویة عوالمه، هي بمثابة شواهد تروي حكایة عالمنا الواقعي، اذ ان المنسوجات الجمیلة والمنادیل والأوشحة الحریریة المترفة والوجوه المسترخیة والأطراف الرقیقة، هي كما لو كانت مشهدا رمزیا معبرا عن إحدى الدول المتقدمة، والتي تزهو فضاءاتها بالابراج المضیئة والساحات الخضراء الواسعة والتطور العلمي والتقني الذي یظهر فعله جلیا في تفاصیل حیاة مواطنیها، في حین یعرض لنا الفنان وبنفس الوقت ماهو على النقیض بصورة ماهو أشبه بالعالم السفلي أو بالمنظر الجهنمي الذي یطل علینا من خلال النافذة، إذن: هل نحن هنا بمواجهة عالمین؟ أحدهما یتمیز بالابهة والترف مقابل عالم مقفر وفقیر یطل علینا من النافذة ویعدنا بشتى الاحتمالات؟ هل لنا ايضا ان نشعر بأن الفنان یحیلنا إلى احوال الدول النامیة وتفاصیلها الیومیة، حیث الخراب والدمار والحروب والمؤامرات والاقتصاد المنهار والاستهلاك لأیدیولوجیات مستوردة، ضمن سحنة هذا المشهد الكئيب، مشهد ينذر ربما ببركان قریب الحدوث؟
لوحة عمار داود حملتني عنوة إلى كتاب الباحث جیروم كیجان: الثقافات الثلاث، العلوم الطبیعیة والاجتماعية والإنسانيات في القرن الحادي والعشرين الصادر عام ٢٠٠٩، والذي قسم فیه المجتمع البشري إلى فئتين: سكان البلدان الدیمقراطیة الغنیة مقابل سائر البشر. ویرى كیجان أن التقدم الصناعي والتقني للدول المنتجة كلفت البشریة أعباء جدیدة لم تكن معروفة، فبالاضافة الى التلوث البیئي والاوبئة والتغیر المناخي، ثمة ایضا مظاهر التفاوت الاقتصادي والطبقي . وعند قراءة اللوحة من الیسار الى الیمین، نجد أن التسلسل یأتینا كالتالي: الهدهد، الذي یحمله الشخص المیسور الواقف على الیسار، هو بمثابة نذیر شؤم ورمز للعالم السفلي في بعض الثقافات الأوروبیة، في حین تقف الدمیة الاسیویة في الأسفل، والتي توازن نفسها على كرة، وهي أشبه بدمیة ماتریوشكا الروسیة، ذات القاعدة الكرویة الشكل التي تحافظ على توازنها واستقامتها مهما حاولت الظروف الخارجیة الإخلال بهما. والجمجمة، هذه التي عرفناها رمزا للموت تستقر في وسط جهة الیمین على المنضدة، وبدعابة سوداء یحمل الفتى على الیمین أنف المهرج بكف، ومیزان بالكف الأخرى، في حین فتحة النافذة تطل على الجحیم في الطرف الآخر. وعلیه، أتساءل: ماذا لو تسنت لي فرصة اعادة تسمیة اللوحة ؟ لكنت اخترت عبارتي ( أنف المهرج ) عنوانا لها. وهو عنوان تهكمي، ربما بسبب تعمد داود الى استخدام هذا الأنف للتعبیر عن احتجاج صارخ وساخر بوجه الكم الكبير من ازدواجية المعايير و التناقض في التعاملات التي تنتشر بين البشر من حولنا، فالجمجمة، التي هي رمز للموت ستتحول الى مهرج! هل هي إذن اشارة من داود الى إن العالم یسیر على حبل بهلوان؟ طرح الكثیر من المفكرین والباحثین العدید من الأسئلة عن سبب اختلال التوازن العالمي، فمثلا ، تسائل دیفید لاندز وهو أحد المؤرخین الاقتصادیین من جامعة هارفارد، في كتابه ثروة وفقر الأمم: لماذا البعض بهذا الثراء؟ والبعض الآخر بهذا الفقر؟ الصادر عام ١٩٩٨، وقد قرر أن یعزو اسباب ظهور فئتان متباينتا الحجم في العوز والثراء إلى عوامل جغرافیة بیئیة، وإمكانیات تقنیة، بالإضافة الى عوامل اجتماعیة وسیاسیة. حیث ان لیس من قبیل الصدفة نشوء عشرات الصراعات المسلحة، والتي راح ضحیتها مئات الآلاف من سكان الأرض وتسببت في نزوح أكثر من ١٧ ملیون لاجئ، هذا فضلا عن اتساع عموم الفوضى في أماكن مختلفة من الأرض، وابتلاع دولة تلو الاخرى من ذوات الاقتصاد الراكد منذ نهایة الحرب العالمیة الباردة ولیومنا هذا. المشهد إذن جنوني ومتباین، بین عالم متسید، طغت علیه سمات البذخ، مقابل آخر موحش وقفر، یتموضع خلف فتحة النافذة، وكأن لسان حال الفنان ینذر بوجود ذئب خلف الباب

هل هذا فعلا ما أراد عمار داود قوله في لوحة الحیاة ؟
& & هي إذن غرفة وأشیاء وشخصین، ومقابلة بین عالمین، تتضاءل أو تنعدم فیها أهمیة الزمان والمكان، فهل هو یا ترى مشهد من احدى مسرحیات اللامعقول لیوجین یونسكو؟ حيث رسم شخوصه بدرجة كبيرة من التباين في الأفكار والرغبات؟ &ثم ليختار لهم أن یخرجوا من الواقع الى اللاواقع؟ هذا اللاواقع الذي يهاجم فيه الطبقات الثرية بأدوات نقدية فلسفية تسیطر علیها حالات سوریالیة مأساوية كما هو الحال في مسرحيته ( أمیدیه، وكيف التخلص منه ) والتي يتواجد فيها شخصان في فضاء غرفة وهما یعانیان من عبء التخلص من جثة تتضخم تدریجیا خلف الباب في الغرفة الثانية. أم هو مشهد استمد مناخه من مسرحیة هارولد بنتر ( أرض الحرام ) بقطعة أرضها الغیر المأهولة بالسكان والتي تقع بین طرفین متنازعین؟ نعم، الموت هو الحدث الوحید الذي یتساوى فیه الجمیع، ففي المسرحية یلتقي هیرست الشاعر والكاتب الثري صدیقه المتشرد المهمش سبونر الذي يعتاش على ذكريات الآخرين. هو إذن مسرح دراماتیكي یسجل القلق والفوضى والنزاع بین الروح والذاكرة. علنا الآن، وفي هذه الخاتمة ، أن نستعید مشهد من مسرحیة ( الخادمتان ) للكاتب والمسرحي الفرنسي جان جینیه والذي یصور فیها النزاع والتنافر ما بین كلا من عالمي السطوة والحرمان من خلال حوار یدور بین خادمتین حول الرغبة في قتل سیدة المنزل، لینتهي بسبب تصاعد وتیرة التخطیط لتحقیق الهدف وقتل السیدة، الى قتل إحدى الخادمتین للاخرى . اننا إذن واقفون أمام ذات المعضلة الازلیة، معضلة الوقوف أمام ثنائیة عالمین في حالة تحدي دائمة لبعضهما .


معمارية وكاتبة في النقد الفني
ستوكهولم 2018

&