الأخبار السلبية هي من الأسباب التي تجعل الناس يقللون باستمرار من قيمة التقدم الذي تحرزه الإنسانيّة. فهي اليوم أفضل مما كانت عليه قبل 100 عام، إلا أن ما ينقصنا هو تنوير التفاؤل.

إيلاف من بيروت: إلى أي شخص يقرأ الصحف، قد يبدو العالم تعيسًا. فسوريا في حرب، وشنّ مجنون آخر هجومًا مسلّحًا على مدرسة أميركية. كما إن نبرة النقاش السياسي لم تبلغ يومًا هذا القدر من الطيش. 

نتيجة رائعة
الصفحات الأولى قاتمة، لأنّها مثل مسرحيات شكسبير، تتضمّن الكثير من جرائم القتل. والمأساة دراماتيكية. غالبًا ما تحدث الأشياء السيئة فجأة، وتكون صالحة للعرض على التلفاز: مصنع يغلق؛ شقق تحترق. بينما تميل الأشياء الجيدة إلى أن تحدث تدريجًا، وتمتدّ على منطقة واسعة، ما يجعل تصويرها أصعب كثيرًا. تذكر وكالات الأنباء بصدق أن "عدد الأشخاص الذين يعانون الفقر المدقع قد انخفض بمقدار 137000 نسمة منذ الأمس" كل يوم مدة 25 عامًا. لكنّ القرّاء قد يشعرون بالملل.

يشكو ستيفن بينكر من أن الأخبار السلبية هي من الأسباب التي تجعل الناس يقللون باستمرار من قيمة التقدم الذي تحرزه الإنسانيّة. يقول: "علينا أن نستخدم الأرقام لنميّز الحالة الحقيقية للعالم"، وهذا ما يفعله بالتحديد في كتابه "التنوير الآن: دفاعًا عن المنطق، والعلم، والإنسانية، والتقدم" Enlightenment Now: The Case for Reason, Science, Humanism and Progress (منشورات فايكينغ، 576 صفحة؛ 35 دولارًا)، النتيجة رائعة، وترفع المعنويّات، وتولّد فيك حماسة للإسراع نحو جهاز الكمبيوتر المحمول وإغلاق حساب تويتر الخاص بك.

لا تتشاءموا بالتنوير حاصل الآن

العالم اليوم أغنى بـ 100 مرة مما كان عليه قبل 200 عام. وعلى عكس الاعتقاد الشائع، فإن ثروته موزعة بشكل أكثر تساويًا. وعدد القتلى المسجّل سنويًا في الحروب أقلّ من ربع ما كان عليه في الثمانينيات، وأقل من نصف عدد القتلى في الحرب العالمية الثانية. خلال القرن العشرين، أصبح الأميركيون 96 في المئة أقل عرضة للوفاة في حادث سيارة، و92 في المئة أقل عرضة للهلاك بالحريق، و95 في المئة أقل عرضة للموت في أثناء العمل.

أفكار جيدة
أظهر الكتاب السابق الأكثر شهرة لبينكر "الملائكة الأفضل لطبيعتنا" The Better Angels of Our Nature أن الجنس البشري أصبح أقل عنفًا. 

يوضح كتابه الجديد أن التقدم المطرد والتراكمي يحدث على جبهات متعددة. لهذا، يعترف بقيم التنوير في القرن الثامن عشر التي أوجزها إيمانويل كانط بعبارة "تجرّأ على المعرفة"!. فمن خلال تطبيق المنطق على المشكلات، يمكن الناس حلّها والانتقال إلى المشكلات الآتية. 

الجدير بالذكر أن التجارة والتكنولوجيا تنشران أفكارًا جيدة، ما يتيح للبلدان الغنية أن تصير أكثر ثراء، والفقيرة أن تلحق بركبها. 
غالبًا ما كان التقدم سريعًا بشكل مذهل. الغالبية العظمى من الفقراء الأميركيين تتمتع بكماليات لم تكن متوافرة لـ "آل فاندربيلت" و"أستور" منذ 150 عامًا، مثل الكهرباء وتكييف الهواء والتلفزيونات الملوّنة. 

الباعة المتجولون في جنوب السودان يحملون هواتف نقّالة أفضل من الهاتف الضخم الذي تباهى به جوردون جيكو، الزعيم القوي الخيالي، في "وول ستريت" في عام 1987. لا يتعلّق الأمر فحسب بفكرة أن الطب والصرف الصحي الأفضل يسمحان للناس بالعيش حياة أطول أو صحية أكثر، أو إن الأجهزة الموفرة للعمالة منحت الناس المزيد من أوقات الفراغ، أو إن أمازون وآبل تقدمان مجموعة رائعة من وسائل الترفيه لملء أوقات الفراغ هذه، بل أيضًا بفكرة أن الناس يزداد ذكاؤهم، ويصبحون أكثر إنسانية.

الدماغ جشع
في كل جزء من العالم، ارتفعت معدلات الذكاء 30 نقطة في 100 سنة، وهذا يعني أن الشخص العادي اليوم يسجّل نسبة ذكاء أفضل من 98 في المئة من الناس قبل قرن من الزمان.

كيف يعقل أن يحدث ذلك، علمًا أن نسبة كبيرة من الذكاء تكون وراثية، والأشخاص الأذكياء لا ينجبون أكثر من الأشخاص الأقل ذكاء؟.

الجواب هو تغذية أفضل ("الدماغ عضو جشع") وتحفيز أكثر. أصبح احتمال ذهاب الأولاد إلى المدرسة أكبر مما كان عليه في عام 1900، في حين يتمّ "تشجيع التفكير التحليلي خارج المدرسة من خلال ثقافة تعتمد على الرموز البصرية (خرائط مترو الأنفاق، شاشات العرض الرقمية)، والأدوات التحليلية (جداول البيانات وتقارير الأسهم) والمفاهيم الأكاديمية، التي تحوّلت تدريجيًا إلى لغة مشتركة (العرض والطلب، وبشكل عام، حقوق الإنسان).

يؤكد بينكر أن لهذا الذكاء عواقب أخلاقية، لأن الناس الذين يستطيعون التفكير والتحليل بشكل تجريدي يمكن أن يسألوا: "كيف سيكون العالم لو فعل الجميع هذا؟"... هذا يتفق مع الانتشار الملحوظ لقيم التنوير. 

قبل قرنين، كان 1 في المئة فقط من الناس يعيشون في الأنظمة الديمقراطية، وحتى إن النساء والرجال من الطبقة العاملة حرموا من التصويت آنذاك. الآن، يعيش ثلثا الناس في الأنظمة الديمقراطية، وحتى الدول الاستبدادية، مثل الصين، هي أكثر حرية مما كانت عليه في السابق.

تفاؤل مبتهج
ارتفع منسوب الاعتقاد بالمساواة بين الأقليات الإثنية والمثليين، ليس بالاستناد إلى استطلاعات الرأي فحسب، بل وفقًا للنشاطات على الإنترنت أيضًا. انخفضت عمليات البحث عن النكات العنصرية بنسبة سبعة أثمان في أميركا منذ عام 2004.

في الواقع، الأشخاص الذين يتمتعون بهذا النوع من النكات هم في طريق الانقراض: يشير بينكر إلى أن البحث عبر الإنترنت عن النعوت العنصرية يرتبط بالاهتمام بـ "الضمان الاجتماعي" و"فرانك سيناترا". وحتى الأماكن الأكثر تحفظًا تصبح أكثر تساهلًا. 

تظهر استطلاعات الرأي أن الشباب المسلمين في الشرق الأوسط ليبراليون بقدر ما كان عليه الشباب الأوروبيون الغربيون في أوائل الستينيات.

يصعب على الكثير من القراء هضم هذا التفاؤل المبتهج. سيحتجّ البعض أنّنا قد نكون أكثر ثراء من الناحية الماديّة، لكن ألسنا أقل سعادة لأننا نعرف أن الآخرين يملكون أكثر من ذلك؟، قد تكون لدينا حواسيب خارقة في جيوبنا، ولكن أليست تسبب وباء الوحدة بين الشباب؟، وماذا عن الاحتباس الحراري أو الصواريخ النووية لكوريا الشمالية؟.

يملك بينكر إجابات عن كل هذه الأسئلة. وفقًا لدراسات مسح القيم العالمية، زادت السعادة بين 1981 و2007 في 45 بلدًا من أصل 52. صحيح أن الاحتباس الحراري تهديد كبير، لكن يمكن التغلب عليه. وكذلك انخفض عدد الأسلحة النووية في العالم بنسبة 85 في المئة.

مكان التشاؤم
لكنّ نهوض الشعبوية يطعن بفرضيّة بينكر. فمؤيدو ترمب وبريكست ومختلف الأحزاب الاستبدادية في أوروبا يميلون إلى الاعتقاد بأن الأيام القديمة كانت ذهبية، وأن الخبراء لا يمكن الوثوق بهم، والمؤسسات الديمقراطية الليبرالية مؤامرة لإثراء النخبة. يريد البعض هدم هذه المؤسسات والبدء من جديد، وهذا من شأنه أن يقطع التقدم التدريجي الذي يؤيّده بينكر.

يبقى متفائلًا لكن من دون تهوين المخاطر. الضوابط والتوازنات التي ينتقدها الشعبويون فاعلة بشكل معقول في معظم البلدان الغنية، وستتخطى المحصول الحالي للديماغوجيين. سيخيب أمل مؤيدي الشعبوية، أو سيختفون ببساطة. وأكثر ما يبعث الراحة في بينكر هو تراجع الإيمان. 

ففي العالم، على الرغم من أن 59 في المئة من الناس متديّنون، انخفضت هذه الحصة بعدما كانت قريبة من 100 في المئة قبل قرن. ويلفت بينكر إلى أنه مع زيادة ثراء الناس، يتخلّون عن ركيزة الإيمان، ويعتمدون أكثر على المنطق.

للتشاؤم مكانه، فهو يعزز الحذر. وتركيز الغريزة البشرية على المشكلات أمر سليم، فهذا يعني أنه يتمّ حلّها غالبًا. مع ذلك، الفكرة الأساسية لبينكر محقّة. فالأمور لا تنهار. وبمنع الاصطدام الكارثي لكويكب ما أو منع الحرب النووية، من المرجح أن يستمر الوضع في التحسن.


 أعدّت "إيلاف" هذا التقرير عن "إيكونومست". الأصل منشور على الرابط:
https://www.economist.com/news/books-and-arts/21737241-enlightenment-now-explains-why-doom-mongers-are-wrong-steven-pinkers-case-optimism?frsc=dg%7Ce