رأى جعفر ابن الحاجّ السلمي؛ الأستاذ في كلية الآداب والعلوم الإنسانيَّة في جامعة عبد المالك السعدي، تطوان، المغرب، أن الأسطورة العربية تشكل من حيث هي جنس أدبي غني بالغ الغنى، مخزنًا كبيرًا لأنواع أدبية كثيرة لا يُهتَم بها من حيث هي سرد أدبي، وخيال إنساني رمزي معبّر ودال جدًّا في العالم العربي إلا قليلًا، لأجل ما تعرّضت له طويلًا من إهمال وإخمال. إن هذه الأنواع المختلفة، كالأسطورة التكوينية، والأسطورة العجائبية الغرائبية، والأسطورة الكرامية، تشكل المظهر الأكثر بروزًا للأساطير العربية. بيد أن في السرد العربي أنواعًا أسطورية أخرى لا تقل من حيث شرعيتها الأدبية عن هذه الأنواع.

إيلاف: أشار السلمي في دراسته"الأساطير الأُخرَوِيَّةُ العربية: من الإهمال والإخمال الديني، إلى سُؤال الشرعية الأدبية الأسطورية"، الصادرة من وحدة الدراسات المستقبلية في مكتبة الإسكندرية، إلى أن من أبرز هذه الأنواع الأسطورية المهملة، الأساطير الأخروية، أي الأساطير التي تجعل مميزها الأساسي التنبؤ بما سوف يقع في "آخر الزمان"، أو في "الدار الآخرة"، بتعبير المسلمين، أو ما يسميه الغربيون بالإسكاطولوجية. 

وقال "إن مشكلة "الأساطير الأخروية" تكمن في كونها خطابات عاشت دائمًا بين فكي الرحى، فأضحت غير مقبولة تمامًا أو غير ذات مصداقية دينية كبيرة على العموم عند علماء الدين المسلمين السنيين، وغير معترف لها بصفة الأدبية عند نقاد الأدب وأصحاب نظريته، بالنظر إلى التبعية العامة للسؤال الأدبي العربي في العصر الوسيط للسؤال الثقافي، وتبعية السؤال الثقافي للسؤال السياسي الديني، حتى صارت في واقع عالم الأدب والنقد نسيًا منسيًّا". 

هذا الإهمال غير المتعمد للأساطير الأخروية جعل من واجب الباحث في الأساطير من حيث أدبيتها الاعتناء بإثبات أدبية الأساطير الأخروية، وأنها تستحق الدراسة من منظور نظرية الأدب على الأعم، ونظرية السرد خاصة، وتجنيس الأساطير الأخروية ضمن جنس الأسطورة العربية، وإلحاقها بها باعتبارها فرعًا من أصل، ونوعًا من أنواع جنس أدبي معيّن وموصوف، حتى لا تبقى فرعًا منسيًّا مهملًا ومُزوَرًّا عنه، والكشف عن مكونات هذا النوع الأسطوري وسماته وبلاغته وإشكالاته.

وتطمح الدراسة إلى أن تفي بكل ما يتعلق بأدبية الأسطورة الأخروية، وطرح نظرية نقدية منسجمة تمام الانسجام ومتكاملة. وقد أكد السلمي "حسبنا أن نطرح إشكال إهمال الأسطورة الأخروية، وأن ننبه أولًا على وجود هذا الضرب من الأساطير، وغناه وأدبيته، وموقف التراث السني منه، عسى أن يعمل الباحثون العرب وغيرهم على تطوير نظرية أو نظريات نقدية تخص هذا النوع الأدبي. وسوف يعتمد بحثنا هذا على مدونات الأحاديث الموضوعة في القرون الهجرية الأولى التي جمعها المحدِّثون السنيون، باعتبارها دواوين للأدب الأسطوري الأخروي العربي، وأولى هذه المدونات كتاب "الفتن" لنُعَيم بن حماد، (ت 229هـ/ 843م-844م) لغزارة مادته وأقدميتها، وإعلان المحدِّثين القدامى بأن أكثر ما يرويه "باطل"، متنكبين المدونات غير السنية؛ لأن لها مجالها الخاص الذي يستحق دراسات مفردة".

ولفت السلمي إلى أن مفهوم الأسطورة مفهوم لا يخلو من التباس، بالنظر إلى كون أكثر الباحثين في الأساطير يجعلون النموذج اليوناني للأساطير هو أنموذج الأسطورة، فيصعب عليهم تقبل خصوصية الأسطورة العربية، بل قد لا يخطر لهم على بال وجود أنواع من الأساطير في التراث العربي غنية ودالة جدًّا، كالأساطير العجائبية والأساطير الكرامية. إننا نقصد بالأساطير كل حكي أو سرد مقدس تضمن أحداثًا خارقة للعادة، جرت في الزمن الأول المقدس، (زمن البدايات الخرافي) بتعبير مرسيا إلياد، أو سوف تجري لا محالة في الزمن المقدس الأخير، قبيل قيام الساعة. إن هذا النوع من الأساطير هو ما يهمنا في هذا المقام. وهو غزير جدًّا في التراث العربي، في صورة "أحاديث" منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم منبع القداسة، أو صحابته، أو حتى عموم الجيل المقدس، جيل "السلف الصالح". لا نجد في التراث العربي مصطلحًا جامعًا لما نسميها نحن بـ "الأساطير الأخروية". وإنما تُستَعمل فيه مفاهيم "الفتن" و"الملاحم" و"أشراط الساعة" وما إلى هذا. إن هذا النوع من الأساطير، يقابل من حيث المبدأ، ما يسميها الغربيون بالإسكاطولوجية.

أضاف السلمي " إن الأسطورة الأخروية هي كل أسطورة تتنبأ بالمصير الحتمي المقدور للإنسان والكون، كله أو بعضه، في آخر الزمان، أو في الدار الآخرة. إن كتاب الفتن، لنُعَيم بن حماد، أنموذج بليغ جدًّا لدواوين الأساطير الأخروية العربية، وإن تضمن نصوصًا ليست أسطورية، حيث ضم بين دفتيه 2004 نصوص مروية مسندة بأسانيد ضعيفة جدًّا أو موضوعة، باصطلاح المحدِّثين. وأكثر هذه النصوص قصيرة النَّفَس إجمالًا، ذات الطابع الأسطوري، هي نصوص أسطورية أخروية، بالمعنى الدقيق للكلمة، يدفعها المحدِّثون من علماء الدين، ولا يرونها نصوصًا دينية مقدسة، على العموم، ويتحاشى دراستها نقاد الأدب كذلك، مخافة اختراق التحريمات الدينية. فكان ذلك سببًا كبيرًا في إهمال اكتشاف أدبيتها البارزة للعيان.

بداية الأسطورة الأخروية
وقال عن بداية الأسطورة الأخروية في التراث العربي "كان إعدام الإسلام للأساطير الجاهلية المقدسة حتى صار أكثرها نسيًا منسيًّا، مدعاةً لأن تظهر أساطير أخرى حلت محلها؛ لأن طبيعة الأشياء أنها لا تقبل الفراغ. وبدلًا من أن تُصادِم الأسطورة الإسلامية، أي الناشئة في سياق الحضارة الإسلامية الناشئة، هذه الثقافة الدينية الإسلامية، عملت على احتوائها، فتغلغلت فيها، بل عملت على تمثيلها، وتقمص أشكالها ومضامينها، بالعمل على تزويرها، أو "تزييفها" باصطلاح المحدِّثين، أي بإنشاء نصوص أسطورية تجعل من الأحاديث النبوية نموذجها الأعلى، تحاكيها شكلًا ومضمونًا، وتساعدها على ذلك طبيعة الثقافة الدينية الإسلامية في بدئها؛ من حيث هي ثقافة شفهية قائمة على الرواية الفردية للنصوص المقدسة؛ تتيح من حيث المبدأ مجالًا رحبًا للُّبس والوهم والافتعال، لولا العلماء الجهابذة الذين كانوا يتصدون في أحيان كثيرة لظاهرة تزييف النصوص الدينية. وقد قام بإبداع هذه الأساطير طائفتان من الناس:

ـ طائفة مثقفة عالمة، كانت تشكل في زمنها جزءًا من النخبة الإسلامية، ولها موقف أيديولوجي رافض مطلقًا للثقافة الإسلامية، وما فيها من "سنة" و"حديث". لكنها لا تَقْدِر دائمًا على التصريح برفض الثقافة الإسلامية، فتعمل على الاستهزاء بها وتمييعها حتى يختلط الحابل فيها بالنابل، بتزييف النصوص المقدسة، أي بإنشاء أحاديث مشتبهة أشد الاشتباه بالأحاديث الأصلية. وهذه الفئة هي الفئة المعروفة بـ "الزنادقة".

ـ وفئة أخرى، هي فئة القُصَّاص، أو الوعاظ والمذَكِّرين. ولم يكن هؤلاء من ذوي الموقف الأيديولوجي المعادي. بل كانوا فئة عامية أو أقرب إلى العامية، ذات موقف موالٍ للثقافة الإسلامية، تعيش من السرد الأسطوري، وتعمل على تزييف النصوص المقدسة، إما عن حسن نية، وإما طلبًا للمعاش من العامة. وقد بلغ أمر انحطاطها في طلب العيش بترويج السرد الأسطوري وغير الأسطوري لدى العامة، أن وصفها ابن الجوزي بـ "الشحاذين". 

يقول عنها: "الشحاذون: فمنهم قُصَّاص، ومنهم غير قُصَّاص. ومن هؤلاء من يضع، وأغلبهم يحفظ الموضوع" ويعدد ابن قتيبة (ت 276هـ/ 889-890م) مفكر الانقلاب السني في القرن الثالث، والأقرب عهدًا إلى نُعَيم بن حماد (ت 229هـ/ 843-844م) صاحب أقدم مدونة متخصصة في الأساطير الأخروية، أو تكاد، وهو «كتاب الفتن»؛ أسباب وضع الحديث، ويحدد الجماعات المسؤولة عن إنتاج وترويج هذه الظاهرة الدينية الأدبية، فيقول "منها الزنادقة واحتيالهم للإسلام، وتهجينه بَدسِّ الأحاديث الـمُستشنَعة والمستحيلة.. منهم ابن أبي العوجاء الزنديق، وصالح بن عبد القدوس الدَّهرِيّ. والوجه الثاني: القُصَّاص على قديم الأيام، فإنهم يُميلون وجوه العوامِّ إليهم، ويستَدِرّون ما عندهم بالمناكير والغريب، والأكاذيب من الأحاديث. ومن شأن العوامِّ القعود عند القاصِّ، ما كان حديثه عجيبًا، خارجًا عن فِطَرِ العقول، أو كان رقيقًا يُحزِنُ القلوب، ويستَغزِرُ العيون. فإذا ذَكَرَ الجنة، قال: فيها الحَوراءُ من مسك أو زعفران، وعجيزتها ميل في ميل.. وكلما كان من هذا أكثر، كان العجب أكثر، والقعود عنده أطول، والأيدي بالعطاء إليه أسرع".

الزيوف 
وكشف السلمي أن هذه الأساطير الأخروية تدخل في نطاق مفهوم "الزيوف"، أي الأحاديث الـُمفتعَلة افتعالًا، والتي أنشأها وضَّاعون معروفون أو مجهولون، وهو المفهوم الـمُخالِف لمفهوم "الأحاديث الصحيحة"، وما ينحاش إليها من أحاديث حسنة أو ضعيفة. وقد استعمل ابن الجوزي (ت 597هـ/ 1200-1201م) هذا الاصطلاح. يقول: "ولا يسع الناقدَ في دينه أن لا يُبيِّن الزيوف من غيرها". والناقد هنا هو المحدِّث عند ابن الجوزي. إن تزييف الأحاديث الأخروية بنسبتها من حيث السند، إلى مصدر القداسة الثاني، أي النبوة المحمدية، أو "السلف الصالح"، أي الجيل المقدس من صحابة أو تابعين، وبالاجتهاد في إبداعها إبداعًا يحاكي النصوص المقدسة من حيث المتن؛ هو ما يجعلها تقوم بوظيفتها في تشكيل رؤية المسلم العامي للمستقبل، وتخصيب خياله، وتخويفه منه، بل إرعابه. وإذا كانت الأساطير مقدسة عند المؤمنين بها، فإن كونها "زيوفًا" يجعلها تفقد صفة القداسة، عند علماء الدين بالضرورة، وعند الباحثين في العلوم الإنسانية، فتصير "مردودة" بتعبير الفيروزآبادي، (ت 817هـ/ 1414-1415م) إذ يقول: "صارت مردودة لغش".

وضرب السلمي مثلًا لهذا بما جاء عند نُعَيم بن حماد قوله "حدثنا عُبيد بن واقد القَيسي، عن محمد بن عيسى الهُذَلي، عن محمد بن الـمُنكَدِر، عن جابر بن عبد الله، عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خلق الله تعالى ألف أمة، ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر. وأول شيء من هذه الأمم هلاكًا الجراد. فإذا هلكت، تتابع مثل النظام إذا قُطِع سلكه".

وقال "لقد اتخذ هذا النص كل مكونات وسمات النص الحديثي المقدس، فهو منسوب إلى النبي بسلسلة سند على طريقة المحدِّثين، وفيه تنبؤ بالغيب والمستقبل، وما يكون في آخر الزمان، وفيه تنبؤ بحدث خارق أكبر، هو فناء العالم، وحدث خارق أصغر، هو فناء الجراد، هذه الحشرة المحقورة في شكلها. وكل هذا حتمي ومقدور، ولا مفر منه. وهذا الحدث الخارق الأصغر، أمارة على بداية وقوع الحادث الخارق الأكبر، أي أمارات الساعة الكبرى. إن التزييف هنا قد بلغ منتهاه، وجاز أن يشتبه الأمر على المتلقي المسلم المؤمن السني العام، لولا تصريح المحدِّثين بكونه من "الزيوف"، أي نصًّا صيغ صياغة النصوص المقدسة الأصلية، وحاول أن يحاكيها في كل شيء.

الأسطورة الجفرية والحِدثانيَّة 
أضاف أن النشاط الهائل للمحدِّثين في تدوين الحديث، غثِّه وسمينه، في مدونات كثيرة، واعتناؤهم البالغ بتوثيقه وتمييز مراتبه من صحيح وحسن وضعيف وموضوع، كان مدعاةً لتوقف حركية الأساطير الأخروية، في الظاهر على الأقل، ابتداءً من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي؛ لأن منطق الأشياء يفترض أن الحديث النبوي قد جُمِع ووُثِّق، وكذلك "آثار السلف"، وأن لا سبيل إلى رواية "أحاديث فتنية" غير التي في أيدي المحدِّثين كأصحاب الكتب الستة والمتخصصين في "الموضوعات" كابن الجوزي، الذين استوعبوها تدوينًا في القرن الثالث وبعيده. 

فضلًا عن هذا، فإن حركة "الزنادقة" كانت قد انقطعت في هذا القرن، بانتصار أهل السنة عليهم وعلى المعتزلة في هذا القرن نفسه، ولم يبقَ إلا القُصَّاص ونشاطهم. بل لقد تعرّضت كتب الفتن إلى نقد عنيف من النقلانيين أهل السنة أنفسهم. فهذا ابن دِحيَة السَّبتي ينتقد "كتاب الفتن" لأبي عمرو الداني، المقرئ الشهير فيقول "كتاب "السنن الواردة بالفتن وغوائلها، والأزمنة وفسادها، والساعة وأشراطها"، وهو مجلد مَزَجَ فيه الصحيح بالسقيم، ولم يُفرِّق فيه بين نَسْرٍ وظَليم. وأتى بالموضوع، وأعرض عمَّا ثبت من الصحيح المسموع".

فكان هذا النقد النقلاني الشديد إيذانًا ببوار هذا الجنس الأسطوري السردي العربي القديم، الذي نشأ ابتداءً من نهاية القرن الأول، بيد أن بواره كان إيذانًا بظهوره من جديد وانبعاثه في جنس أسطوري آخر حل محله، هو جنس الأساطير الجفرية الحِدثانيَّة، وهو جنس سردي أسطوري كذلك، شبيه بجنس الأساطير الأخروية، ومتطور ومتفرع منه. إن كتاب الجفر "كان أصله، أن هارون بن سعيد العجلي، وهو رأس الزيدية، كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق، وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم، ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص...". بيد أن الأسطورة الجفرية التي تطورت من أصلها الشيعي، صارت أسطورة سنية تتنبأ بالمستقبل في صور عديدة".

وقال السلمي "انتقل مصدر الإلهام في الأسطورة الجفرية من آل البيت وما لهم من قداسة في نفوس المسلمين السنيين والشيعة على السواء بالتدريج، إلى الـمُنجِّمين وما عندهم من العِلم المستقبلي. يقول ابن خلدون (ت 808هـ/ 1405م): وأما بعد صدر المِلَّة، وحين عَلَّق الناس على العلوم والاصطلاحات، وتُرجِمت كتب الحكماء إلى اللسان العربي، فأكثر مُعتمَدهم في ذلك كلام الـمُنجِّمين في الـمُلْك والدول، وسائر الأمور العامة من القِرانات، وفي المواليد والمسائل، وسائر الأمور الخاصة من الطَّوالع لها". وبهذا التطور في ظاهر الأسطورة الأخروية، خَلَفَتْ الأسطورة الجفرية الحِدثانيَّة الأسطورة الفتنية، لكن باطنها لم يتغير. فالأساطير لا تفنى ولا تتلاشى، ولكنها تتطور.