إيلاف: ما المجتمع (أو العالَم الاجتماعي)؟ ما هي مكوناته؟ ما هي طبيعته؟ ما هي بنيته؟ كيف يستمرّ النظام الاجتماعي؟ وهل يمكن إعادة إنتاجه عبر الزمن، على الرغم من السلوكات المتقلبة للأفراد، والتحوّلات التي تمسّ القيم والمعايير والقواعد والحوافز والدوافع الخاصة بالجماعات والأفراد؟.

كيف تنشأ التفاوتات الاجتماعية، وما الآليات التي تعيد إنتاجها؟ ما الشروط الضروريّة لإنتاج معرفة سوسيولوجية علمية؟. حاول عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو الإجابة عن هذه الأسئلة في كلّ أعماله الأكاديمية، التي امتدّت على فترة تتجاوز 40 سنة، وللقيام بذلك، بنى نظريّة سوسيولوجية أصيلة اعترف الكثير من علماء الاجتماع المعاصرين بأنّها النظرية التي سيطرت على الحقل السوسيولوجي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. 

في هذا الكتاب "نظرية العالم الاجتماعي.. قواعد الممارسة السوسيولوجية عند بيير بورديو" حاول الباحث الأكاديمي والمترجم حسن أحجيج تقريب هذه النظرية من القارئ العربي بتقديم عرض بسيط وواضحٍ لبنيتها المفاهيميّة المكوّنة من "الهابتوس"، و"الحقل"، و"العنف الرمزي"، و"رأس المال"، و"الانعكاسية"، وغيرها، وذلك بالرجوع الدائم إلى المشكلات التي تكشف عنها، والحلول التي تقدّمها إليها، متجنّبًا المعالجة التبسيطية والاختزاليّة للفكر السوسيولوجي البورديوي، ومحاولًا تسليط الضوء على العلاقات القائمة بين المفاهيم التي تشكّله، وكذا توضيح ديناميكيّتها الشاملة، وهي تشتغل في نماذج أساسيّة من بحوث بورديو الميدانية.

لاحظ أحجيج أن الطريقة التي يتم بها تداول بيير بورديو في الأوساط الأكاديمية المغربية وخارجها أيضًا، كشبكات التواصل الاجتماعي، تعمِّق كلَّ أشكال سوء الفهم التي يعاني منها فكرٌ عميق وأصيل يقوم على مبدأ التجدد المستمر وإعادة النظر الدائمة في مفترضاته ومسلّماته. 

وقال "المقتطفات البورديوية التي تعج بها الدروس الأكاديمية والمقالات التي تملأ المواقع الإلكترونية، بما فيها المتخصصة في العلوم الاجتماعية، وحيطان الشبكات الاجتماعية، غالبًا ما تَرِدُ مجتثَّةً من سياقات بنائها، الشيء الذي يكرّس فكرَ بورديو بوصفه موضع إعجابٍ آمنٍ ومريحٍ؛ نظرًا إلى أن طريقة تداوله تؤدي حتمًا إلى تجفيف النظرة العلمية التي ما فتئ يدعو إليها هذا الفكر الحادُّ والصعبُ والمعقّد. فبعيدًا عن الحاجة إلى الانغلاق على الذات، لم ترغب سوسيولوجيا بورديو أبدًا في أن تكون موضوعَ تأويلٍ موحَّدٍ أو محطَّ معالجةٍ صنَميَّةٍ؛ فهي بخلاف ذلك تتضمن في أحضانها مبدأ نقدها وتجاوزها، وهذا المبدأ، في رأيي، هو أنها تمنح القارئ "أسلحة الدفاع (عن ذاته) ضد الهيمنة الرمزية". ويعني ذلك أنه يجب على القارئ أن يدافع عن نفسه ضد الهيمنة الرمزية التي يمكن أن يمارسها عمل بورديو المعترف به عالميًا؛ وذلك بأن يجري معه «مواجهة نقدية كما لو أن الأمر يتعلق بأي موضوع آخر".

أضاف احجيج كاشفًا عن دافعه وراء إنجاز هذا الكتاب هو "عدم وجود عمل متكامل يقدم العُدَّةَ النظرية لسوسيولوجي ملأ الدنيا وشغل الناس. فمما يثير الاستغراب أن غياب أعمالٍ نسقيةٍ عربية من هذا النوع لا تتساوق مع المكانة الرفيعة التي يشغلها هذا السوسيولوجي الفرنسي في حقل العلم الاجتماعي الدولي، والذي جعلته إنتاجاتُه، التي فاقت الأربعين كتابًا ومئتي مقال، يتبوأ موقع السوسيولوجي الأكثر استشهادًا به في هذا الحقل. فضلًا عن ذلك اطلاعي على الترجمات العربية التجارية لبعض أعماله، والتي اكتشفت أنها حوّلت فكرًا متماسكاً ونسقياً إلى فكرٍ مشوهٍ لا يمثّل في شيء مضمونه الحقيقي". 

وإذا كان هدفُ هذه الترجمات، من الناحية المبدئية، هو تقريب فكر بورديو إلى القارئ العربي، وتخصيب التفكير السوسيولوجي العربي بنظريةٍ اجتماعية تتميز بأصالة نوعية، فإنها في الحقيقة دفعت ممارسي العلم الاجتماعي العرب إلى النفور من هذه النظرية، معتقدين أنها نظريةٌ غامضة، أو ربما نظريةٌ محرَّرَةٌ بلغة باطنية مخصّصة فحسب لفئة من المهتمين الذين يمتلكون وحدهم المفاتيح السحرية لفك رموزها، وكأنهم في هذا يشبهون شرّاح الكتاب المقدس الذين منحتهم العناية الإلهية الوسائلَ لحلٍّ ألغازِ الخطاب الإلهي دون غيرهم من عامّة المؤمنين.

سعى احجيج إلى تقديم العمل السوسيولوجي لبورديو من خارج الألعاب اللغوية المعقّدة لدائرته السوسيولوجية وشرّاحه، ومن ثَمَّ ترجمته إلى لغة واضحة وبسيطة. مؤكدا أن هدف الكتاب ليس عرض المفاهيم المكوِّنة لنظرية بورديو السوسيولوجية كوحداتِ معنى مستقلّةٍ عن بعضها بعض. و"بمعنى آخر، فأنا لا أبتغي هنا تقديم تعريفاتٍ نظرية لمفاهيم نظرية الممارسة كما نصادفها في المعاجم اللغوية أو قواميس العلوم الاجتماعية خارج سياقات استعمالها، وذلك عملًا بنصيحة بورديو نفسه، الذي يدعو الباحث إلى "تجنب الحديث عن المفاهيم لذاتها، الشيء الذي سيمكّنه من تفادي أن يكون تخطيطيّاً وصوريّاً".

فقد حرص بورديو دائمًا على تجنّب العروض النظرية التخطيطية التي تؤدي إلى نوع من النزعة التنظيرية التي لا طائل منها. وألحّ في المقابل على أن المفاهيم يجب تحديدها في حركة البحث نفسها لأنها أدوات إجرائية وليست أشياء في ذاتها تستعمل لأغراض نظرية خالصة: "بالنسبة إليّ، لا يتمظهر التفكير النظري إلا عبر إخفاء نفسه في الممارسة العلمية التي تكشف عنه".

وقدم احجيج مفاهيم نظرية الممارسة كأدوات لا تحظى بقيمتها الإجرائية إلا من خلال استعمالها، وطبّق عليها ما قاله بورديو بخصوص مفهوم "الهابتوس" الذي "تكمن قيمته قبل كل شيء في المشكلات الزائفة والحلول الخاطئة التي يستبعدها، وفي المسائل التي يسمح طرحُها بحلّها بشكل أفضل، وفي الصعوبات العلمية الخالصة التي يثيرها"، وعليه حاول تقريب البنية المفاهيمية لسوسيولوجيا بورديو بالرجوع الدائم إلى المشكلات الزائفة التي تكشف عنها وتقدّم حلولًا للتغلّب عليها، وإلى الصعوبات العلمية الخالصة التي يرى بورديو، حاذيًا في ذلك حذو غاستون باشلار، أنها وحدها تمثل المشكلات الخصبة في مجال الممارسة العلمية التي تتعارض مع مجرد الحلول السهلة والمشكلات اللغوية التي يعدّها عوائق إبستمولوجية.

وقال شاحجيج "إذا كان من الممكن التعريف بالنظرية السوسيولوجية لبورديو من خلال عرضٍ محدودٍ من المفاهيم المفاتيح التي تكوّن هذه النظرية، فسوف لن تكون لها مردودية علمية إلا إذا تمّ تقديمها بشكل علائقي؛ نظراً لأنها لا تشتغل في هذه النظرية إلا في ترابط وتفاعل دائمين؛ لذا سيلاحظ القارئ أنني عمدت إلى تجنب المعالجة "التبسيطية" والاختزالية للفكر السوسيولوجي البورديوي، محاولاً تسليط الضوء على العلاقات القائمة بين المفاهيم التي تشكله، وكذا توضيح ديناميكيتها الشاملة، وهي تشتغل في نماذج أساسية من بحوث بورديو الميدانية، ممّا سيسمح لي بموضَعة هذه المفاهيم في منطق شمولي للتفاعل والارتباط المتبادل".