&
يولد الطفل وهو مزوَّد باللاشعور كمادة خام، وبعد أن تتعرَّض هذه المادة الأولية إلى قصف الظروف والعوامل الخارجية يبدأ تشكّل ما يُسمَّى لاحقاً بالأنا.
&
يمثّل اللاشعور لدى الطفل الرضيع قطعة من العجين إذا ما تعرَّضت للحرارة انتفخت ونضجت وأخذت شكلاً جديداً. إن هذا النتوء الناشئ عن الحرارة هو الأنا (الشخصية) وبهذا التغيّر الحاصل يتحوَّل إحساس الطفل بذاته من الإحساس بالذات بضمير الغائب (هو) إلى الاحساس بالأنا والذاتية ومن ثم الفردية. ومع مرور الوقت تبقى الأنا مغروسة في تربة اللاشعور، لكنها متأثرة بالظروف الخارجية المحيطة. وهذه الظروف هي الأم والأب والبيئة وثقافة المجتمع وحالة الطفل الصحية وغير ذلك. وبالتالي فإن تشكيل ما يُسمَّى فيما بعد "الأنا العليا" (الضمير) مرهون بكل تلك الظروف من حيث النجاح أو الفشل في صناعة أنا عليا سليمة.
يقول بيير داكو في كتاب "انتصارات التحليل النفسي": "ملايين الموجودات الإنسانية يعيشون على أناهم العليا (اللاشعورية)، بدلاً من أن يعيشوا على أناهم (الشعورية)، لكنهم يجهلون ذلك. هذه الأنا العليا توجه أعمالهم، كما تسبِّب لهم التوتر والإثمية والحصر، جميعها داخلية وتؤدي إلى العصاب غالباً، عصاب أعراضه يمكنها أن تكون جسمية ونفسية على حدّ سواء".
إن مجمل حاجات ورغبات اللاشعور التي يتمّ تعويمها إلى سطح الأنا لكي تمارس دورها على مسرح الأنا والشعور تمرّ عبر نفق الأنا العليا وبذلك فالأنا العليا هي مصفاة الذات، لكنها على الأغلب تكون مسدودة بفعل خلل في التربية تتحول مع الوقت إلى جيب مسموم يلوّث كل ما يمرّ به.
تمتلك الأنا العليا خيارين اثنين في التعامل مع الرغبات العابرة لحواجزها: الإعطاء أو القمع. وذلك بعد أن تفصح الرغبة عن محتواها الأخلاقي أوغير الأخلاقي ، لكن الخطورة تبرز عندما تأتي الرغبة مرتدية قناعاً وربما خماراً فلا يكون لدى الأنا العليا سوى قرار الكبت! وهنا منشأ المشكلة. فكبتنا للأسرار العادية اليومية متعب، فما بالنا بكبت الأسراراللاشعورية المبهمة والغامضة الغايات. وفي هذه الحالة يتم إرجاع الرغبة من حيث جاءت لتتكدَّس مع أخريات كأكياس قمامة تسكن قعر الذات اللاشعورية لتصبح أفكاراً ثابتة في ما بعد.
&
ولكن، ما هي الفكرة الثابتة؟
الإنسان الفاقد للأمان الداخلي النفسي يشبه الرجل الذي يقف وسط حافلة تسير على أرض وعرة وكلما اهتزت الحافلة ازدادت بذلك حاجة هذا الراكب للتشبث والإعتصام بالمحور في منتصف الحافلة. الفكرة الثابتة هي ذلك المحور.
فالأفكار الثابتة بالرغم من أنها عصاب، إلا أن فقدان التوازن الداخلي يجعلها حاجة ملحَّة.
على سبيل المثال: شخص عصابيّ يتفحَّص محفظة جيبه عشرات المرات أثناء خروجه من المنزل ويتأكَّد من أنه أقفل الباب وعندما يعود يبدأ حملة شعواء لا ترحم في تفقُّد كل شيء: مفتاح الكهرباء وصنبور الماء والغاز... إلى درجة مرهِقة. وهو من خلال كل محاولة واحدة يقول لذاته من خلال محاكمة عقلية غير نافعة: "كل شيء على ما يرام وهو في مكانه الطبيعي، فلماذا القلق؟". هذه المحاكاة تخص "الأنا المسمومة" لا الواقع العقلاني، وهي غير نافعة مجدداً لأنها تمثّل احتياز شعور عقلاني بالمشكلة، بينما الحل يجب أن يكون احتيازاً وجدانياً - انفعالياً.
العصاب والأفكار الثابتة هي خلل وظيفيّ غير عضوي، ويرى بعض العلماء أنه اضطراب في الغدد لا الدماغ.
ما هو التابع النفسي أو ما يُسمَّى الطفيلي النفسي؟
الأنا المتكيّفة مع الواقع هي كخلَّاط الفاكهة الذي يطحن أنواعاً مختلفة منها ليعطينا مزيجاً متجانساً. كل ثمرة تستعصي على هذه المطحنة هي مشروع تابع نفسي في بدايته.
تعيش التوابع الفسية على شكل عناكب في زوايا المخ إن صح التعبير، وعندما يصبح هذا التابع قوياً بما يكفي (بمساعدة الوهن النفسي والضغوط الخارجية) يحاول الاستقلال عن الأنا المتشظية باستنزاف طاقاتها خارج سلطة الأنا الموحدة لحسابه الخاص.
آخر مرحلة قد يصلها التابع هي التمثُّل المرضي فيظهر على شكل شخصية هلوسية كما في مرض الفصام على وجه التحديد.
إنَّ الفصامي (المفصول عن الواقع جزئياً أو كلياً والمنشغل بذاته المرضيَّة) هو إلى حدّ كبير يشبه الروائي من حيث القدرة على اختراع الشخصية والتعامل معها ككائن من لحم ودم، لكن الفارق أن الفصامي لا يميزها عن الواقعي ويعيش معها حياة عادية: يأكل ويشرب معها... ليصنع عالماً وهمياً بيديه ويضيع فيه.
التابع النفسي المستقلّ ليس غريباً عن التاريخ الفكري الإنساني. فمن منَّا لم يقرأ عن "دايمون" الإله الحارس الذي كان يزعم سقراط بأنه رفيقه وجليسه في أغلب مراحل حياته؟
&
باحث سوري في مجال علم النفس.