&
كان الطبيب الروسي ليونيد تسيبكين كاتبا أيضا.وفي صمت كان يعارض النظام الشيوعي في ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي.وفي أكثر من مرة حاول الخروج الى المنفى غير ان جميع محاولاته باءت بالفشل.وفي ما بين عام 1977 و1980،كتب تسيكبين رواية تحت عنوان:”صيف بادن بادن" سجّل فيها بطريقة بديعة تفاصيل الرحلة الأخيرة التي قام بها فيدور دستويفسكي الى أوروبا بصحبة زوجته أنّا.وكان من المحتمل أن تظلّ هذه الرواية الرائعة طيّ النسيان لو لم يسارع أحدهم بنشرها في مجلّة "نوفايا غازيتا" الأسبوعيّة التي كانت تصدر في نيويورك ،والتي كانت تهتمّ بأدب المغتربين الروس الفارّين من النظام الشيوعي،والمنشقين عنه.حدث ذلك قبل أسبوع فقط من وفاة صاحبها بالسكتة القلبيّة وهو في السادسة والخمسين من عمره.غير أن الرواية أهملت ،ولم تلقى الصدى المتوقع لها.وفي أواخر التسعينات من القرن الماضي،عثرت عليها الكاتبة الأمريكية المرموقة سوزان سونتاغ في مكتبة تبيع الكتب القديمة في لندن .وبعد أن انتهت من قراءتها فتنت بها ،وعرضتها على ناشرين لتنال حال صدرها شهرة عالمية واسعة.وكما قال أحد النقاد، فإن فرادة هذه الرواية تتمثل في التأرجح الآسر بين حياة الترحّل التي عاشها دستويفسكي برفقة زوجته أنّا عام 1867،وسيرة كاتبها نفسه،أعني بذلك تسيكبين الذي لا يقدم نفسه أبدا وهو يتجول في روسيا الشيوعية،والماضي المحموم يواصل إضاءة الخرائب الثقافية للحاضر.
في عام 1862،انخرط دستويفسكي في لعب القمار وذلك خلال أول رحلة قام بها الى بريطانيا،وفرنسا، وألمانيا.وعلى مدى أربعة أعوام ،ظلّ يفكر في كتابة رواية عن "جحيم القمار"خصوصا بعد أن مني بخسائر فادحة في هذه اللعبة في مدن أوروبيّة مختلفة.وفي خريف عام 1866،تعرف على أنّا غريغوريافنا ستيتكين التي زارته في شقته في حيّ "سوق التبن "لتعرض عليه العمله كسكريتيرة. وهي تنتمي الى عائلة مرفهة نسبيّا .وبعد بضعة أسابيع ،عرض عليها الزواج منه ،ققبلت طلبه برغم فارق السنّ الهائل بينهما.وكانت بداية حياتهما الزوجية صعبة للغاية.فقد كان دستويفسكي يعاني من متاعب مادّيّة جسيمة.وكان الدّائنون يطاردونه.وهروبا من هذا الواقع المرير،قرّر دستويفسكي السفر الى أوروبا بهدف استعادة حيويته المفقودة بسبب تراكم المشاكل المادية والنفسيّة.وقد دفعت والدة أنّا تكاليف الرحلة التي بدأت في يوم من أيام شهر نيسان -أبريل 1867 في قطار غادر سانت بطرسبورغ صباحا.وفي اليوم التالي،وصل الزوجان الى العاصمة النمساوية فيانا.وفي مدارج الفندق،التقيا يهودا عرضوا عليهما خدمات.في المساء،وهما يتجوّلان في شوارع المدينة الضّيقة شاهدا نفس هؤلاء اليهود بصحبة نسائهم .بعد يومين وصلا الى برلين.ومنها سافرا الى درسدن.وهناك شرعا في البحث عن سكن غيرأنهما اصطدما بصعوبات عدّة ذلك أن الألمان لا يطيقون الروس،و"همجيّتهم".ومتضايقا منهم ،وصفهم دستويفسكي ب"الأغبياء".وفي النهاية سكن الزوجان عند سيدة تدعى تزيمارمان ،وهي سويسرية جافّة ،وفارعة الطول.بعدها شرعا في اكتشاف المدينة زائرين متحفها الشهير.وقد أعجب دستويفسكي كثيرا بلوحة لمريم العذراء رسمها الفنان الايطالي الشهير رافائيل.وقبل وفاته يقليل ،أهديت له نسخة من اللوحة المذكورة .وهي لا تزال معلقة الى حد هذه الساعة فوق الكنبة التي فارق عليها الحياة.
وكان دستويفسكي وأنّا يتناولان طعام الغداء والعشاء في مطاعم متواضعة.ويوميا تقريبا كانا يتخاصمان مع النادلين بسبب سوء المعاملة .وكان دستويفسكي يقول عنهم بإنهم يجسّدون الجانب الأشدّ وضاعة في النفس البشرية.وبالرغم من الخصومات المتواصلة بينها وبين زوجها سريع الغضب،وحاد الطبع،فإنّ أنّا حافظت على هدوئها،وصبرها.وحتى عندما اكتشفت ذات مرّة بأنه لا يزال يتقبل رسائل غرام من عشيقة قديمة تدعى بولينا،فإنها ظلت مخلصة له.وعن ذلك كتبت في يومياتها تقول:”أعرف انه شيء سيّء أن أقرأ رسائل زوجي من وراء ظهره ،غير أنني لم أتمكن من ان أمنع نفسي من القيام بذلك.الرسالة من بولينا.وعندما قرأتها أحسست ببرودة تسري في جسدي.وقد بكيت كثيرا من فرط الإنفعال.وكان خوفي كبيرا من أن يشتعل حبّه القديم من جديد فيقضي على حبي له...أووه...يا الهي ...أنقذني من هذا المصير الفاجع!يكفي أن أفكر في ذلك حتى يتوقف قلبي عن الخفقان!”.
عقب مرور ثلاثة أسابيع على الاقامة في درسدن،بدأ دستويفسكي الذي كان مدمنا على القماريفكر في الذهاب الى هومبورغ(مدينة قرب فرانكفورت) آملا أن يسعفه الحظّ هناك فيتخلص من همومه الماديّة خصوصا بعد أن أعلمه أحد أصدقائه بأن عودته الى روسيا تعني دخوله السجن فور وصوله الى هناك بسبب كثرة شكاوي الدائنين.وفي أواسط شهر مايو-أيّار من العام المذكور ،استقلّ القطار الى هومبورغ فودعته زوجته باكية.ومن هومبورغ بعث لها برسالة يقول فيها:”لقد كنت حزينا امس.وأنا كنت أرغب في أن أحتضنك .لكن ،رغم ان هذه الرغبة استبدّت بي عقب فراقك ،فإني سأبقى هنا .أنا أرتكب حماقة.نعم حماقة ودناءة بالخصوص.لكن من المحتمل أن يكون لي حظّ ضئيل".وفي رسالة أخرى هو يعبر لها عن مخاوفه من سوء الحظ،ويكتب لهاقائلا:”ولكن كيف سيكون ألمي لو أنني أخسر ولا أحصل على شيء ،وأقبل بلا أية نتيجة كل هذا الكمّ الهائل من الدناءة ،ثم أمضي أشدّ بؤسا ممّا كنت".
وعلى مدى ستة أيام لم يغادر دستويفسكي قاعة القمار في هومبورغ .مع ذلك كانت الخسارة تلاحقه.وفي النهاية كان عليه أن يرهن ساعته اليدوية .وتحت تأثير احساسه بالذنب،كان يكتب يوميا رسالة الى انّا مؤكدا حبّه لها.وفي واحدة من هذه الراسائل،كتب يقول:”لو كان الأمر يتعلّق بي أنا لهان عليّ ذلك،ولضحكت هازئا،ولهززت كتفي ساخرا ،بل لما فكرت فيه أصلا.لكن هناك شيئا واحدايرعبني:ماذا سنقولين عني ،وكيف ستفكرين بي؟ما هو الحب دون احترام؟ان علاقتنا بدأت تتزعزع...آه يا صديقتي ..لا تحكمي عليّ حكما نهائيّا!”.وفي رسالة بتاريخ 19 مايو-أيّار 1867،كتب لها يقول:”أمس كان يوما كارثيّا.فقد خسرت أكثر بكثير من إمكانياتي.ما العمل؟بأعصاب مثل أعصابي يا ملاكي،لا بد من تجنّب اللعب.لقد لعبت لمدة عشر ساعات ،وخسرت كل شيء في النهاية.وعلى مدى النهار بكامله،ساء كلّ شيء(...)اليوم سأقوم بأخر محاولة بما تبقّى لي-قطرة ماء! اليوم سأقرر إن كنت سأعودإليك غدا،أم سأبقى أياما أخرى".
وفي كلّ رسالة كان دستويفسكي يطلب من زوجته أن ترسل له ثمن تذكرة العودة الى درسدن متوسّلا لها ألاّ تسعى الى القدوم الى هومبورغ.ومستفيدا من تجربته المريرة تلك،سوف يتمكن دستويفسكي في ما بعد من اكمال رواية "المقامر".وفي نهاية شهر مايو-أيار بلّغ دستويفسكي بأن القيصر ألكسندر الثاني تعرض لعمليّة اغتيال من تدبير بولونيّ يدعى انطون بيرنروفسكي . حدث ذلك خلال افتتاح المعرض العالمي.ومتأثرا بهذا الخبر،أصيب بنوبة صرع حادة ضاعفت من حقده على البولونيين ،وعلى الراديكاليين الروس الذين يتآمرون على النظام القيصري .وعن ذلك كتبت زوجته أنّافي يوميّاتها تقول:”لقد تأثر فيدور كثيرا بعملية الإغتيال التي استهدفت القيصر.فهو يحبه ويكنّ له فائق التقديروالإحترام".
وفي 21 يونيو-حزيران ،انطلق دستويفسكي بصحبة زوجته الى بادن بادن الواقعة جنوب غربيّ ألمانيا ،والمشهورة بفنادقها،وحمّاماتها .وهناك امضيا خمسة أسابيع أدى خلالها دستويفسكي زيارات عدة الى تورغيننيف الذي كان يقيم هناك بين وقت وآخر.
حال وصوله الى بادن بادن،شرع دستويفسكي يتردّد على فنادق القمار.وكان يحصل احيانا على مبالغ لا بأس بها تخوّل له نخفيف الضغط المادي الذي كان يعاني منه.غير أن ذلك لم يمنع من تفاقم المتاعب المادية .وراسمة صورة قاتمة لهذا الوضع،كتبت أنّا تقول في يوميّاتها:”كان(تقصد زوجها) متهيّجا للغاية .وقد توسّل اليّ بألاّ أعتبره وغدا يسلب آخر فلس منّي فقط لكي يشبع رغبته في القمار.وأنا أناشده بأن يظلّ هادئا.وأقول له بإنه بإمكانه ان يحصل على المبلغ الذي يريد ،وبأني لن افكر في ذلك أبدا .وعندئذ أنصرف لأنخرط في البكاء ذلك أن الآلام والأوجاع التي سبّبها لي وكلّ ذلك حطمني".
وكانت نوبات الصرع تنتاب دستويفسكي بين وقت وآخر.وواصفة حالته،كتبت انّا في يومياتها تقول:”مسحت العرق عن جبينه،والزبد عن شفتيه.وأعتقد أن نوبة الصرع التي لم تدم سوى القليل من الوقت لم تكن خطيرة.فعيناه لم تخرجا من رأسه رغم أن جسده كان يهتزّ بقوّة طوال الوقت الذي استغرقته النوبة .وعندما استعاد شيئا فشيئا وعيه،قبّل يدي ،واحتضنني ضاغطا قلبه على صدري قائلا لي بإنه يحبني مثل مجنون ،أو انه بكلّ بساطة يعبدني. وعقب النوبات ،يجتاحه الخوف من الموت،ويقول بإنه يخشى أن تقتله ذات يوم .لذا لا بدّ من ان أنتبه الى ذلك.ولكي أطمئته،كنت اقول له بإني سوف أبقى ممددة على الكنبة التي الى جانب سريره".
غير أن انّا الحريصة على الحفاظ على هدوئها وصبرها،كانت تنهار من حين الى آخر خصوصا عندما يطلب منها دستويفسكي أن تبيع حليها لكي يشفي غليله من القمار الذي كان "مرضا لا شفاء منه" بحسب تعبيره.وعندما باع قرطها ،كتبت تقول:”لم أتمكّن من السيطرة على نفسي.وبكيت بمرارة .ولم تكن دموعي دموعا عادية .لكنه كانت شهقات حادّة ألّمت صدري،ولم تخفّف من ألمي البتة ،ثم اخذت أحسد الآخرين الذين يبدون دائما سعداء في حين كنّا نحن الإثنين -أو هكذا بدا لي على الأقل-الوحيدين اللذين يعيشان شقاء بلا حدود".
أواسط صيف العام المذكور،توصّلت أنّا بحوالة بريدية من والدتها مكنتها من دفع الديون العالقة بزوجها،وأيضا من شراء تذكرتين الى جينيف.غير ان دستويفسكي هرع في يوم السفر الى فندق للقمار ،وظلّ يلعب الى ان خسر كلّ شيء.ولم تتمكن أنّا من اقناعه بالسفرالى جينيف في اليوم التالي الاّ بصعوبة كبيرة.وعندما غادرا الفندق الذي كانا يقيمان فيه في بادن بادن،لم يتقدم الخدم منهما لتوديعهما .وهكذا انطلقا الى سويسرا مثقلين بالهموم والديون والأحزان...