(1-2)

لا يتعين عدّ نصوص هذه القراءة بمثابة مداخلة نقدية لاعمال الفنان العراقي المعروف محمود صبري (1927 – 2012)، انها نوعا من تداعيات افكار، تحضر بصورة تلقائية كلما انظر الى المنجز الابداعي المتقن الذي خلفة الفنان القدير؛ ذلك المنجز، الذي لم يأخذ، مع الاسف الشديد، حقه من الدرس والمتابعة. ظل فن مجمود صبري عصيا على النقاد، وبعيدا عن انظار وحتى اهتمام كثر من الكتاب الذين تناولوا مسار سرديات الفن العراقي ومنتجه الابداعي، رغم انه احد "رواد" هذا المسار، وواحد من فنانيه المرموقين. صجيج كان محمود، يذكر (ويحضر ..ايضاً) في بعض من المنشورات التى تعاطت مع الفن العراقي وفنانيه، لكن ذلك "الذكر" والحضور، بقيا هامشيين، لا يتناسبان بالمرة مع قيمة المنتج الابداعي الذي اجترحه محمود صبري؛ وهو امر اثار دهشة واستغراب متابعيه واصدقائه المخلصين، الذين رأوا في ذلك نوعاً من الغبن، غير المبرر في حق الفنان الرائد، ونظرة غير منصفة في تقييم فنه الراقي، بل وذهب بعض اصدقائه الاوفياء، لجهة تفادي هذا النقص المعرفي المعيب وغير المسوّغ، الى تبني نشر كتب عنه وعن فنه، كايماءة احترام وتقدير له ولابداعه الثقافي المتميز، كما فعل صديقه "د. حمدي التكمه جي" بنشر كتاب "محمود صبري: حياته وفنه وفكره"، الصادر عام 2013.
ساتحدث ، هنا، في هذا المقال/ القراءة، عن اربع لوحات رسمها محمود صبري في الخمسينات وعند "جوارها"، (وانا اقصد، بالكلمة الاخيرة، التاريخ القريب الى الخمسينات)، لكنها جميعها، وكما اراها، تحمل في طياتها عبق و"نَفَس" الخمسينات وتبين خصوصية تلك السنين الحافلة بالمتغييرات.&
تعود ملكية جميع تلك اللوحات الى عائلة التكمه جي. واللوحات اصلية، عدا واحدة هي لوحة الوطن (وطني)، التى تحتفظ العائلة بنسخة مصورة منها، لكنها ليست بابعادها الحقيقية الكبيرة، اذ ان ابعاد اللوحة الاصلية تبلغ حوالي خمسة امتار في الطول! اثنتان من اللوحات الاربع مشغولتان بالزيت على قماش، وثمة "رسمة" كرافيكية من ضمن تلك اللوحات، اما لوحة "الوطن" فانها مشغولة هي الاخرى كرافيكيا بالاسود والابيض، وقّدر ان يكون موقعها (كما قيل لي) خلف نصب الحرية، الذي انجزه جواد سليم في عام 1961، في الباب الشرقي بوسط بغداد، وعند سطح الافريز الخلفي الذي ظل فارغاَ! واود ان ابدي، هنا (وقبل الحديث عن اهمية اللوحات التى ساعرضها تالياً)، ملاحظتي الشخصية، حول اصطفاء هذا المكان تحديدا. ليكون المكان المخصص لها (او هكذا كما أُخبرت به). وارى ، ان المكان المختار لبس فقط غير مناسب، وانما مجحف ..ايضاً، لجهة &الايحاء، في الاقل، بحضور نوع من تراتبية تضع المشاهد في حيرة امام تقييم العمل الفني المرئي، ايهما الاول من الناحية الاهمية؟ وايهما الثاني؟؛ او مَن يمثل "المركز" ومَن يدلل على "الهامش"؟ (اذا استعرنا مفردات النقد التفكيكي!)، فالوجود المجاور لعملين مهمين في "موقع" واحد، يفضي، بالضرورة، الى تلك المقارنة. &وبما ان عمل "جواد" في النصب اياه، عمل بارز ومهيمن وضخم وبابعاد ثلاثية...واقدم زمناً ايضاً، فان اي عمل فني آخر متاخم له، سيُعّتبرـ بصرياً، عملا "ملحقاً" و"ثانويا" في الاهمية. وهي حالة لا "تستقيم" مع قيمة عمل محمود صبري، ولا تشي بالجهد المبذول في انجازه. فضلا عن وجود بواعث آخرى، لا تعمل في صالح لوحة محمود صبري فيما لو تم اختيار ذلك الموقع.
والان لنعد الى "رؤية" ذلك الصوت الخمسيني مجدداً، عبر "القراءة" الموعودة &لتلك اللوحات الاربع.
-&& &لوحة "بورتريه باسمة البحراني" (1955)
تكاد تكون لوحة "بورتريه باسمة البحراني" تعبيرا جلياً وعميقاً لمزاج سنين الخمسينات ونوازعها المستقبلية. فتكوينها المميز، والوانها البراقة المختارة، والمسقطة &باحترافية على قماشة اللوحة تشي بدلالات تلك المرحلة الزمنية، وتُذكّر بآمالها وهمومها وهواجسها.. ايضاً، انما من دون ان يكون لحضور تلك الدلالات انعكاسا مباشراً في عناصر &اللوحة المرسومة. ثمة امرأة (امرأة شابة وجميلة!)، جالسة على مفروش يفصلها عن الارض وهي متكئةعلى يدها اليسرى، تاركةً اليمنى "تتدلى" على فستانها بهدوء وبحرية. في الخمسينات، ولع الفنانون العراقيون الحداثيون برسم نساء الطبقة الوسطى. محملين هذا النوع من الرسم وموضوعه "النسوي" معانِ رمزية توحي بمقاصد شتى, لنتذكر "نساء" جواد سليم، وحافظ الدروبي وعطا صبري، وخالد الجادر، بالاضافة طبعا الى بورتريهات فائق حسن المتقنة، وغيرهم من الفناننين.&
في لوحة "باسمة البحراني"، يتوق الفنان ان يكون التركيز البصري للمتلقي، منصباً، على وجه الشخصية المرسومة، لاجل حصر انتباهه في "نوعية" نظرة الفتاة واتجاهها. كأن محمود صبري، يسعى من وراء اجتراح البناء التكويني كله بلوغ هذه الهدف تحديدا، كأنه ينزع الى توظيف صبغات الوانه البراقة، والساطعة والمتوهجة التى اقتصرت عليها اللوحة، الى ترسيخ أثار درب الوصول الى ذلك المرمى حصراً. ثمة تماثل لوني يصل حد التماهي، بين الوان خلفية اللوحة ولون فستان الفتاة المرسومة. انها محاولة اضافية من الفنان &لتشديد آخر، ولفت الانتباه نحو "مركزية" اللوحة، باتجاه وجه المرأة، والرغبة لسبر سرّ و"سحر" &ذلك النظر المتطلع، الموحي بالآمال! &لا يكتفي محمود صبري، بكل هذة "التأكيدات" لجهة اظهار مقصده، فيلجأ الى "طقس" لعرف سومري قديم، يكمن في مغالاة رسم العيون، والمبالغة في تكبيرها، زيادة في تكريس اهمية الحدث المقصود ودلالاته الرمزية!
-&& &لماذا كل هذة الاهمية لنظرة المرأة المرسومة، لماذا هذا الاكتراث الفائض بها؟
لماذا؟ &لان الفنان اراد ان يودع آماله و "آمالنا" في تلك النظرة الساحرة! فثمة آمال مفعمة بالخير والتقدم والرفاه، تبدو قريبة المنال، وفي "مرمى" نظرة المرأة الشابة الجميلة التى ترنو لها. انها آمال وطموحات ناس كثر ظلوا يحلمون بها، وكانت تمثل هاجسا حقيقيا للكثيرين في سنين الخمسينات البطولية، هي التى اراد الفنان ان تجسدها وتظهرها بجلاء لوحة "بورترية باسمة البحراني" من خلال تكوينها المذهل، والوانها الساطعة التى تشي برمزية عالية، قابلة للتفسير وللقراءات المتنوعة! وبالتالي، فنحن ازاء عمل شديد الاتقان يتسم على فرادة فنية، استطاع محمود صبري به ان يجترح لنا لوحة تشكيلية، اعدها واحدة من اجمل اللوحات "النسائية" التى انتجتها الحداثة الفنية العراقية. انها بحق صوت الخمسينات "المرئي"، والتعبير المدهش لأمال ذلك العقد "الفريد"، الذي لم يكن احد يتوقع ان "تجهض" آماله بتلك السرعة، وبتلك الطريقة الدرماتيكية مولدة حسرة وغصة &عميقتين، لانزال نتجرع مرارة نتائجهما الكارثية لحين الوقت الحاضر. لكن ذلك...قصة آخرى!
لوحة "عائلة فلاحية" (1956)
يتعين التذكير، ونحن امام لوحة "عائلة فلاحية"، من ان معظم الفنانيين العراقين الرواد، تعاطوا مع "ثيمة" <الفلاح>، و<الحياة الفلاحية>، بشكل بيّن وواضح في نتاجهم الفني. ورغم ّانهم، في غالبيتهم، &عاشوا وسكنوا في حواضر مدينية، الا انهم نادراً ما رسموا البيئة الحضرية وشواهدها، بمثل ذلك "الالحاح" الفلاحي وحضوره الطاغي في منتج اعمال الفنانين العراقيين الرواد. واذكر باني &اثرت هذه "الاشكالية" المكانية، اثناء حديثي عن منتج الفنان "خالد القصاب" (1924 -2004)، الذي وجدت فيه "فنان المدينة / الحاضرة بامتياز"، هو الذي بدا (او كاد ان يكون!) الوحيد ، من ضمن الفنانين العراقيين، الذي اهتم فنيا بالمدينة ورسم تحولاتها العمرانية.&
ولوحة "عائلة فلاحية" المرسومة في 1956 لمحمود صبري، تُعدّ واحدة، من ضمن تلك الاهتمامات "الفلاحية" التى أُحبّ موضوعها الفنانون العراقيون &الحداثيون الرواد. &ثمة "شكلان" Figures اساسيان، يحتلان مقدمة اللوحة، يراد بهما ان يمنحا المشاهد انطباعاً واضحاً عن الاهمية التى يحضيا بها في "سردية" تفاصيل اللوحة المرسومة. انهما "الفلاح" و"زوجته" . وفي البعيد يُرى حصان ابيض، مشغول في التهام عشبه. وثمة "دائرة" لشمس، بدا ظلّ "خيالها" معلق في سماء &لا تبدو صافية!
ما يثير في هذه اللوحة (ما يثيرني شخصياً) حضور "التكوين" Composition ؛ التكوين الكفؤ والمقتدر، الذي استطاع محمود صبري، بمهارة، ومن خلاله، ان يوزع شخوص اللوحة ومفرداتها باتزان محكم. كما ان الفنان، وعن طريق "لطخات" ريشته السريعة، تمكن ان يعين حدود اشكال لوحته المرسومة، مضفيا عليها نوع من الهوية، من خلال صبغات لونية محددة، بدت وكأنها مشغولة بعفوية ظاهرة. لم يشأ، محمود صبري، ان يحدد لمشاهدي لوحتة "الخمسينية"، مغزى رسالته البصرية، تاركا اياهم، في تأملهم للوحته المثيرة، تبنى تأويلات &شخصية في دلالاتها ومغازيها المتنوعة. فاللوحة بشكلها "البسيط" والواضح وفي تكوينها المميز، قادرة لانتاج قصص كثيرة، بقراءات مختلفة، نظرا لما تختزنه اللوحة التشكيلية اياها من &معان عديدة!

معمار وأكاديمي