في روايته الجديدة "سينسيوس وهيبتايا" الصادرة حديثا عن دار "التنوير"، يعود بنا الكاتب الليبي فرج العشة إلى الماضي البعيد، وتحديدا إلى تلك الفترة التي كانت فيها بلاده يونانية وثنية، ثم رومانية مسيحية. والواضح أنه يرغب من خلال هذه العودة أن ما تعيشه ليبيا راهنا من أحداث مؤلمة، ومن اقتتال دموي بين الإخوة الأعداء كان قد حدث في زمن بعيد عندما شرع الرهبان المسيحيون المتشددون في تكفير كل من يخالفهم في العقيدة، وقتلهم، وذبحهم بتحريض من رجال الكنيسة. وهؤلاء الرهبان شبيهون بالحركات الإسلامية المتطرفة التي برزت بعد انهيار نظام العقيد القذافي & لتغرق &ليبيا في الدم والجريمة استنادا الى الدين. &ومعنى هذا أن التاريخ يعيد نفسه، لكن بأدوات، وبصيغ، وبشخصيات أخرى مختلفة.

كما يرغب فرج العشة من خلال العودة إلى الماضي في دحض مزاعم وادعاءات منظري الحركات الإسلامية المتطرفة الذين يتفننون في تزوير التاريخ، ومسخه، ولا هدف لهم سوى انكار ما كانت عليه ليبيا قبل أن تصبح بلدا مسلما. والحال أن هذه البلاد كانت مساهمة في الحضارة اليونانية، والرومانية، وفيها ظهر فلاسفة كبار شاركوا في الجدل الفلسفي الذي انتعش على ضفتي البحر المتوسط في فترات مختلفة من التاريخ. وقد وصف المؤرخ اليوناني الشهير ليبيا بأنها "بلد غريب لما فيه من غريب النبات والحيوان". وفيها "خير عميم"، و"أراض خصبة تطرح ثلاثة مواسم في السنة الواحدة". لذلك لم يكن أهلها يعرفون الجوع على مدار السنة.

& سينسيوس &هو الشخصية الرئيسية في رواية فرج العشة ، وهو الذي يروي أحداثها من البداية حتى النهاية. وهو ابن مدينة قورينا التي هي الآن &مدينة البيضاء الليبية. وفيها ولد عام &370 وتوفي عام 413 . وهو رجل دين مسيحي حارب التطرف الديني الذي شاع في زمنه. وكان مغرما بالتاريخ والأدب، ومهتما بالفلسفة اليونانية متمثلة بالخصوص في الأفلاطونية الجديدة التي أرسى دعائمها أفلوطين في مدينة الإسكندرية، وبها تأثر أتباعه فعملوا على نشر تعاليمها في زمن كثرت فيه الفتن والنزاعات بين الفرق المسيحية المتشددة. &

وفي بداية الرواية، يشير سينسيوس إلى أنه سليل المستوطنين الإغريق الأوائل. أما والدته فتنتمي الى قبيلة بربرية. وهو يفتخر بأنه "ليبي الهوية والهوى من دون أكل للوتس الليبي الذي قال هوميروس في الأوديسه بإن من يأكل منه من غير الليبيين يصرف ذهنه عن وطنه الأصلي ويعيش في ليبيا". &وكانت قورينا مشهورة في كامل منطقة البحر الأبيض المتوسط بنبات السلفيوم البري الذي كان ّيباع بوزنه ذهبا" لأن في عصارته علاج لكثير من الأمراض مثل الجروح ووجع الأسنان والورم والضعف الجنسي والنقرس وحتى الصلع. كما كان يصنه منه نبيذ في غاية الجودة.

ولأن قورينا كانت قد أقفرت من الفلسفة بعد انقراض أشهر فلاسفتها وحكمائها، فإن سينسيوس قرر السفر إلى الإسكندرية راغبا في حضور دروس ومحاضرات أول امرأة برعت في الفلسفة، وكان يشهد لها بقوة الحجة، وبالحكمة، وبالقدرة الفائقة على اثارة الجدل الفلسفي بطريقة ساحرة ومغرية. & وكانت هذه الفيلسوفة التي تدعى هيباتيا فائقة الجمال. وقد عشقها رجال كثيرون. وواحد منهم انتحر لأنها كانت رافضة للزواج، محبة للحرية، ومقبلة على ملذات الحياة بجنون بحيث كانت ترفض أن يصدها عن ذلك أي قيد من القيود الأخلاقية أو غيرها. &وكانت محاضراتها عن كبار فلاسفة الإغريق، وعن الأفلاطونية الجديدة تحديدا، تثير اعجاب الطلبة فيقبلون عليها بنهم. ورغم أنها كانت رافضة للمسيحية فإنها تعلقت بسينسيوس، ومعه كانت تقضي ساعات طويلة في الجدل والنقاش حول الفلسفة، وحول المسيحية. وفي تلك الفترة كان الرهبان المسيحيون المتشددون يشيعون الرعب في كل مكان. وكانوا يحرقون كل التماثيل الجميلة باعتبارها وثنية. كما أنهم سعوا أكثر من مرة إلى حرق مكتبة الإسكندرية العظيمة. &وكانت هيباتيا تعتبرهم أعداء للفكر الإنساني. وهم "غوغاء مهووسون يؤمنون بمواعظ الأساقفة ولبي بالمسيح". وانتقاما منها، قام الرهبان السود بقتل هيباتيا بطريقة وحشية. فبعد أن جردوها من ثيابها، ألقوا بها في اسطبل مهجور، ثم قام زعيمهم بذبحها ذبح الشاة بينما كان أنصاره يهللون :"هللويا هللويا هللويا". &وكان مقتلها نهاية للإجتهادات الفلسفية التي اشتهرت بها الإسكندرية &بعد انهيار الحضارة اليونانية.

لقد كان واضحا أن فرج العشة بذل جهدا كبيرا في البحث والتنقيب في الوثائق &والمصادر القديمة لكي يتمكن من الإحاطة بموضوع روايته . وهو موضوع مثير للإهتمام حقا. ولكن الكتابة جاءت مفتعلة في كثير المواضع، ومثقلة بالإستشهادات والأفكار بحيث &بدت الرواية في البعض من فصولها وفقراتها وكأنها دراسة &حول &ظواهر دينية أو فلسفيه، عنها يغيب سحر السرد وحلاوته &ومتعته.&