في كتابها الجديد "موليير وشهرزاد" الصادر مؤخرا عن الدار الفرنسية "ديكارت وأصحابه"، تقدم الكاتبة التونسية فوزية الزواري المقيمة في باريس منذ السبعينات من القرن الماضي الأسباب التي دفعتها إلى عشق لغة موليير، ثم الكتابة بها في ما بعد.

وهي تقول بإنها أحست منذ طفولتها في بلدة الدهماني بمنطقة الشمال الغربي التونسي القريبة من الحدود مع الجزائر بأنها ستكون "مختلفة"، وإنها سوف تتمرد على الذين وعلى اللاتي كانوا يرغبون في أن تكون على الصورة التي يحبذونها، أي أن تكون مطيعة، وراضخة لتقاليد العائلة ووفيّة لأصولها. وفي البداية اصطدمت مع والدتها لأن هذه الأخيرة لم تكن ترغب في تعليمها. لكن والدها أنقذها وأرسلها إلى المدرسة. وبعد أن أحرزت على الشهادة الإبتدائية، رفضت والدتها انتقالها الى مدينة الكاف، عاصمة المنطقة، لمواصلة تعليمها الثانوي. ومرة أخرى تدخل والدها لنجدتها. وفي هذه الفترة، أحبت اللغة الفرنسية. كما أحبت أستاذها الفرنسي. ولكي تلفت انتباهه إلا عواطفها نحوه، كانت تتفنن في كتابة مواضيع بلغته. وكانت تلك المواضيع تروق له كثيرا. ومرة أهداها كتابا. وعلى صفحته الأولى كتب :"إلى التي ستكتب ذات يوم، وأنا على يقين من ذلك". &ولم يكن ذلك الكتاب سوى الرواية الشهيرة "مدام بوفاري" للكاتب الفرنسي الكبير غوستاف فلوبير. وتضبف فوزية الزواري قائلة بأنه تلك الرواية زادت في تأجيج عشقها للغة موليير. لذا بدأت تكتب بها رسائلها وخواطرها من دون أن تخشى الرقيب العائلي المتمثل في الأم بالخصوص والتي كانت تجهل هذه اللغة. وفي البداية، كانت اللغة الفرنسية "لغتها السرية" التي تضمن لها الحرية في أن تعبر عن أفكارها وعن عواطفها. وعندما انتقلت إلى باريس لتواصل تعليمها في جامعة "السربون" العريقة" قررت أن تكون &لغة موليير اللغة التي سوف تكتب بها في &ما بعد رواياتها ومقاتلاتها & & & & ودراساتها.

ومن أجمل فصول كتاب "موليير وشهرزاد"، الفصل الذي تضمن رسالة كتبتها فوزية الزواري إلى غوستاف فلوبير. وفي مقدمتها كتبت تقول :"

عزيزي غوستاف،

هل تتذكر لقاءنا الأول؟ (...) كنا في قاعة الدروس في معهد يقع في منطقة بعيدة ومنسية من البلاد التونسية لما دخلت مُتنكر ا في صورة امرأة تدعى "ايما" (بطلة رواية مدام بوفاري). وعندما أقول "كنا" فإني أعني بذلك خمسين طفلا من أبناء الفلاحين التهم الذباب والأحلام عيونهم. &وقد قام أستاذنا في اللغة الفرنسية المسيو دينيو بتقديمك لنا. وأنا انتهزت الفرصة لكي تكون وسيطي لدى أستاذي. واليوم أنا أعترف بأن اقبالي على قراءة :"مدام بوفراي" لم يكن لترضيتك واسعادك، وإنما لأنني كنت أعشق المسيو دينيو في السر. وعلى أية حال كنت تنتمي &في البداية إلى لعبة اغراء &فيها تستعمل كل الوسائل &من العطر إلى الاتقان الأدبي. ويعني ذلك إذن أن الأمر يتعلق بحيلة عاشقة وليس بحماس تلميذة مجتهدة. &وقد كنت أتباهى تباهي الطاووس بجمال ريشه من خلال كتابة جمل بديعة. وكنت أعرض ذلك كما لو أنني أعرض فستانا جذابا يكشف شيئا من جسدي المثير، أو أحمر الشفاه. وكنت أحاول أن أسْند عواطفي إلى عباراتك وأن أسرّب هيجاني العربي في صياغات جملك".

وفي فقرة أخرى من الرسالة، كتبت فوزية الزواري تقول :"كنت أقرأ وأعيد قراءة "مدام بوفاري" . وفي قلب الريف، كنت أحلم مثلها بحياة مضيئة بالنور والحب الممنوع. وكنت أرغب في أن أفلت من مصير يُفْرَضُ على جميع فتيات القرية حالما يصلن سن البلوغ، أي حبسهن واخضاعهن لتقاليد العائلة الصارمة. &ولم تكن "ايما" مُعَرّضة لمثل هذا المصير المشؤوم، هذا أمر أعلمه، لكن إذا ما نحن أعدنا قراءة الرواية أكثر من مرة، فإننا ننتبه في النهاية إلى أن مصير شخصياتها لا يختلف عن مصيرنا، أو على الأقل نحن نكتشف بالإضافة الى اكتشاف وجودنا، ما يكوّنُ جوهر حياتنا في ما وراء الحدود واللغات".

وتواصل فوزية الزواري رسالتها قائلة :" لم أ كن أدري في ذلك الوقت أني سوف أسلك طريق المجهول، وأني بدأت رحلتي الأولى بعيدا عن عائلتي وعن أهلي، وأني أعيش "منفاي" الأول، إذ في ما بعد بسنوات طويلة، سوف أدرك من خلال لغتك، أن فرصة الرحيل كانت هناك، ومعها حرية أن أقول وأن أعبر كما أنا أريد، ونفس الرغبة التي لم تتحقق بعيدا، والتي قادت "إيما" إلى الموت والتي يمكن أن تهبني الحياة. أن أمضي إلى لغة أخرى...مع "إيما" كرفيقة سفر، &"إيما" التي لا تتردد في أن تعيدني إلى حيث كنت، وأن تشحنني إلى مسقط رأسي في حين أنني في &الوقت &ذاته أغرق في أرضها".