تلعب الاختبارات النفسية والروائز دوراً هاماً في حقل العلاج النفسيّ. وتكون هذه الاختبارات قصيرة في بعض الحالات مثل اختبارات "التداعي الطليق"، وطويلة نسبياً في اختبارات أخرى تأتي على شكل قصة افتراضية مليئة بإسقاطاتٍ يقوم المعالج النفسي بتلاوتها على مسامع الشخص الخاضع لجلسة العلاج بغية إخراج ما لديه من مكبوتات والتعرُّف الأشمل على أفكاره غير المصرَّح بها.
ولتقريب الصورة أكثر للقارئ، سأقوم باستعراض هذه الحكاية المختلقة كمثال توضيحيّ.
تقول الحكاية إنَّ امرأةً في مقتبل العمر، متزوّجة من رجل يعمل كجندي في الجيش، كانت تعيش في كوخ قديم بالإيجار، وهذا الكوخ يعود لرجل مسنّ. وكان هذا الرجل دائم التذمّر من وضعها في بيته فهي لم تدفع له منذ شهور عديدة ما يترتَّب عليها لقاء سكنها، وكلَّما طالبها بالمال قالت له: زوجي سيأتي قريباً ويدفع لك نقودك كاملة. وبعد فترة من الزمن يأتي خبر موت زوجها في الحرب، وهذا الأمر جعل صاحب البيت يضعها أمام خيارين اثنين: إما الدفع حالاً وإما مغادرة البيت.
تغادر المرأة البيت، وهي مغلوبةٌ على أمرها، متوجّهة إلى المدينة وكلها أمل أن تجد هناك مأوىً وعملاً يكفيانها شرَّ الفاقة والعَوَز.
تصل المرأة إلى ضفة النهر عند المساء، وهي مضطرة لعبور هذا النهر لأن المدينة تقع على الضفَّة المقابلة. لكن المشكلة الآن أنها لا تحمل نقوداً، وصاحب القارب أراد مقابل نقلها قطعة ذهبية، وهي
لا تملك إلا ثيابها. فما هي فاعلة؟ خصوصاً أنها لا تستطيع قضاء ليلتها هذه بالقرب من الغابة التي يعيش فيها ذئب قيل إنه افترس الكثير من الناس!
بعدما علم بوضعها، طلب منها سائق القارب ثيابها ثمناً. ولأنها مضطرة للتعرّي أمامه اشترطت عليه ألا يمسسها بسوء. وهذا ما حصل فعلاً.
وصلت المرأة إلى الضفَّة المقابلة للنهر ليلاً وهي عارية. وفي طريقها إلى المدينة صادفت رجلاً مخموراً، وعندما رآها بذلك المنظر قام باغتصابها. (انتهت القصة).
باعتبار هذه المرأة ضحية مجتمع، يسأل المعالج النفسيّ عن المتسبّب الأساسي بالجريمة التي حصلت معها؟ ومن هو الأقل سوءاً بين العناصر الثلاثة؟ مع إعطاء التعليل للجواب.
في هذه القصة، التي تبدو للناظر بسيطةً، تمَّ انتقاء العناصر بعناية، فهي تمثّل طيفاً واسعاً من المجتمع، إضافة إلى أن تحريض المفاضلة والاختيار ما بين عناصر القصة الثلاثة (صاحب المنزل وصاحب القارب والسكير)، هو تحريض لمفاضلة باطنية ما بين المال والأخلاق والغريزة.
وننوّه هاهنا إلى أنه في هذا النوع من الاختبارات لا توجد نتيجة واحدة أو صح وخطأ، فكلٌّ يُعبّر عمَّا في داخله، ويكون "كعب أخيل" لا في الإجابة بل في المبرّر الذي يسوقه المجيب عن السؤال.
هذا بالنسبة للاختبارات الطويلة نسبياً، أما بخصوص تلك الموجزة كالتداعي الطليق، فلدينا هذا المثال:
سأل محلّل نفسيّ فتاةً خاضعةً للعلاج عن مرادف أو ماذا تعني لكِ كلمة "شجرة"؟ فأجابت بلا تردُّد: أشقر!
قد تبدو الإجابة للوهلة الأولى غير منطقية، لكن عندما غاص المحلل النفسي في العمق قليلاً اختلفت المسألة. فباختصار إن الشجرة المنتصبة ترمز إلى جسد رجل قوي، وهي كانت تعشق رجلاً أشقر اللون وهو سبب مشكلتها أصلاً، فجاءت إجابتها على الشكل التالي: الرجل يساوي حبيبي!
وهذا النوع من الروائز يختلف كلياً عن كل ما ينتشر اليوم على صفحات التواصل الاجتماعي من اختبارات غير علمية مثل "تحليل الشخصية" من خلال الإجابة على سؤال واحد، أو إعطاء القارئ سؤالاً وعندما يجيب عنه فهو إما عدواني أو عاطفي!! وغير ذلك من التفاهات التي أقل ما يقال عنها إنها ألعاب أطفال... حيث إنَّ التداعي الطليق يرتكز على أرضية صلبة من النظريات والأبحاث العظيمة، ولا يعتمد على الأهواء الشخصية في التقييم والتجارة والربح.

باحث سوري في علم النفس التحليلي.