عانى رجلٌ لفترة من الزمن صراعاتٍ نفسيةً حادَّةً ومخاوفَ كادت أن توديَ بحياته. وقد كان محور هذه المخاوف أو موضوعها الأساسي هو موت أخيه الأصغر سناً. فكلما سمع بأن شاباً في سن أخيه قد مات ميتة شنيعة أو تعرّض لحادث سير أو ما شابه ذلك سارع إلى تفقُّد أخيه والسؤال عنه والتأكد من أنه ليس هو الشخص المتوفَّى! ولم تنتهِ أوهام هذا الرجل إلا في عيادة الطبيب النفسي.

وبعدما شفي تماماً من تهيُّؤاته علم بأن السبب وراء تلك المخاوف غير المبرَّرة هو شيء يُسمَّى "تبكيتات الضمير" أو العصاب الإكراهي. فماذا يعني هذا المصطلح وهل له علاقة بازدواجيةٍ ما في الانفعال النفسي؟

إن هذا الرجل الذي عانى تبكيتات قهرية كان يحمل في لاشعوره رغبة تتمثل بتمنّي الموت لأخيه، وبما أنها لاشعورية فهو يجهل وجودها وهي قديمة المنشأ لأنها تعود إلى طفولته. لذلك جاء الوقت لكي تعوم على سطحه الشخصي على شكل فقاعة سوداء.

وبالمختصر فإنَّ ذلك كلّه كان يعود إلى أنانية الطفل ورفضه أن يشاركه أحدٌ في محبَّة والديه. وعلينا أن نتذكَّر بأنَّ تمنّي الموت في ذهنية طفلٍ لا يمثّل الجريمة، لأن الهدف منه إزاحة خصمٍ ليس إلا.

ثمَّة قانون لاشعوري لا بد من ذكره هنا: الرغبة تساوي الفعل لاشعورياً، بمعنى أن الرغبة في الطفولة بشيء ما تعيش في اللاشعور على شكل حدث قديم متحقّق. لذلك ولكونه غير أخلاقي فسوف يضغط على السلوك بشكل دائم، فتأتي هذه التبكيتات الإكراهية كمقصلة لمعاقبة الجاني (من خلال أمنية) فقط.

يرى فرويد بأن الازدواجية العاطفية (جذر التبكيت الإكراهي) شائعة لدى البشر، أي أن تحب شخصاً بشكل شعوري وتكرهه وتتمنَّى موته لاشعورياً، غير أن حدَّتها تختلف بين شخص وآخر.

وفي مثال ثانٍ لا يكون الموت فيه تهيُّؤ إكراهي، بل واقع فعلاً، كفتاة فقدت أمها، أو زوجة فقدت زوجها، فتظهر هذه الازدواجية في العاطفة بأبلغ صورها وتجلياتها، حيث يظهر المكبوت في صراع مع الضمير ويتم توظيف أدقّ الأحداث والتفاصيل فيه.

يقول فرويد هنا: "إن المشاعر المتضاربة (العدائية والودّية) تجاه المتوفى حديثاً تريد من خلال هذه الفاجعة، أي الموت، أن تثبت ذاتها معاً كحزن وكرضى. إذ ذاك يتحتَّم أن يحصل تنازل ما بين الضدَّين. وبما أن أحد هذين الضدَّين (العدوانية) لاشعوري بكامله أو في قسمه الأكبر فلا يمكن أن تكون محصلة هذا التنازل هي حاصل طرح العاطفتين من بعضهما والاستخدام الواعي للعاطفة الفائضة على مثال المرء الذي يسامح عزيزاً عليه على إساءة ما. بل إن هذه العملية تتم في الأغلب (بأولية) نفسية خاصة يتم من خلالها قذف العدائية من الإحساس الداخلي إلى العالم الخارجي فتنتزع من الذات وتلصق بالآخرين".

باحث سوري في علم النفس التحليلي.