كانت هانّا آراندت في الثامنة عشرة من عمرهالمّا استمعت إلى محاضرة حول أفلاطون لمارتن هايدغر الذي كان آنذاك في السادسة والثلاثين من عمره. وكان متزوّجا، وأبا لطفل .ومنذ البداية إنجذبت الطالبة اليهوديّة الجميلة ذات العينين السوداوين الواسعتين، والتي كانت ترتدي فستانا أخضر، لصاحب"الوجود والزّمن". لذا سرعان ما وقعت في شراك حبّه هي التي كانت مفتونة آنذاك بالفلسفة اليونانيّة ،وباللاّهوت. وكانت تعتبر الإنجيل جزءا أساسيّا من الفكر الإنساني. وعندما أخذت نار الحبّ تكوي قلبه، تذكّر الفيلسوف الكبير الُمبْحر في ميتافيزيقا الوجود والزمن ،قصيدة الشاعر الألماني الكبير فريديريك شيلّر التي فيها يقول

في واد ، عند رُعاة فقراء

كانت تظهر كلّ رأس سنة

حالما تطير القبّرات الأولى

فتاة فاتنة الجمال


هي لم تولد في الوادي

ولم يكن أحد يعرف من أين أتت

وكانت آثارها تختفي

ُحالما تودّع


كانت رائعة المعشر

وكانت كلّ القلوب تنفتح لها

مع ذلك كانت عظمتها ومجدها

يُبعدان كلّ ألفة


كانت تأتي بالزّهور وبالفواكه

التي نضجت في أماكن أخرى

وتحت شمس أخرى

في طبيعة أكثر سعادة


كانت تقتسم هباتها مع كلّ واحد

مع هذا الفواكه، مع ذاك الزهور

المراهق والشيخ ذو العكّاز

وكلّ واحد كان يعود إلى بيته ومعه هديّة


كلّ الضّيوف كانوا يكرّمون

عندئذ اقترب عاشقان

فقدّمت لهما أجمل هديّة

وكانت الهديّة أجمل الزّهور
في مطلع عام 1925، تلقّت هانّا آراندت رسالة من مارتن هايدغر فيها كتب يقول:”العزيزة آراندت: عليّ أن آتي هذا المساء مرّة أخرى بالقرب منك لأخاطب قلبك. عليك أن تكوني بسيطة، وصافية. عندئذ فقط سيكون لنا الشرف بأن نلتقي.أن تكوني تلميذتي، وأنا أستاذك، فإنّ هذا لم يكن غير فرصة سعيدة لما حدث بيننا.أبدا لن أسمح لنفسي بأن تكوني لي وحدي، غير أنك لن تخرجي من حياتي التي أدخلت فيها حيويّة غير معهودة"
وفي رسالة أخرى بعث بها في نفس العام ،كتب هايدغر يقول:”العزيزة هانّا: لماذا لا يمكن مقارنة الحبّ بالإحتفالات الأخرى التي توهب للكائن البشري؟ ولماذا هو حمل لذيذ على من يصابون به؟هل لأننا نصبح من نحب من دون أن نتحوّل ونصبح كائنا آخر..”.وعادة ما كان اللقاء يتمّ بين العشيقين خلال سهرات تخصّص لمناقشة قضايا فلسفيّة.ومرّة دعى هايدغر ادموند هوسرل ،رائد الفينيمونولوجيا ،ومبتكرها إلى بيته. وكان النقاش ساخنا بين الفيلسوفين الكبيرين أثناء السّهرة.كلّ واحد منهما كان يبذل أقصى جهده لإثبات نفوذه، وصواب آرائه. ومنذ البداية إنحازت الفيلسوفة الشابّة إلى عشيقها، منتصرة لأفكاره. وفي رسالة بعثت بها إليه،كتبت تقول:”وأناأستمع إليك تجادل هوسّرل، إلتهب جسدي حبّا لك...لقد كنت رائعا”. وفي إحدى رسائله المُلْتَهبة بالحب، كتب هايدغر في العاشر من شهر جانفي-يناير 1926 إلى هانّا آراندت يقول

عزيزتي هانا
السهرة التي استمتعت بها كثيرا، وحتى قبل أن تتحقّقَ، ثم رسائلك لكي تتوّجَ كلّ هذا. يمكنني أن أفهم، إلاّ أنّ الحَمْلَ لن يكون أقلّ ثقلا رغم ذلك. ثم أنني أجد نفسي في موقع جيّد لكي أعرف ما يتطلّبه حبّي. أن تكوني قد مضيت إلى الأقصى حتى أنك أوشكت أن تفقدي الإيمان بنا، فإن هذا لن ينحرف بأيّ حال من الأحوال عن الوفاء الأشدّ قوة، والذي ترغب المثاليّة الرومانسيّة في الإعتقاد فيه. أنا لم أنساك بسبب لامبالاة،أو لأن ظروفا خارجيّة تدخّلت، وإنما لأنه كان لا بدّ أن أنساك، وسوف أنساك أحيانا عندما يبلغ عملي مرحلة التركيز القصوى. والأمر لا يتعلق بأيّام،أو بساعات،وإنما لأن هناك سيرورة يتطلب إعدادها أسابيع، وربما أشهرا، لكي تنتفي في النهاية. أن تُتخذ مثل هذه المسافة، وأن يتمّ الإنصراف عن العلاقات التي عقدت، هذا ما أنا أعلمه عن الشكل الأكثر عظمة في مجال التجارب الإنسانية ، في ما يتعلق بالخلق والإبتكار، وهو بمعيار أخذنا للحالات الموضوعية بعين الإعتبار، اللعنة الأكبر التي يمكن أن تصيبنا. إنه إقتلاع، وقد يحدث ألاّ نخرج منه أحياء. والأمر الأشد عسرا هو أنه لا يمكننا أن نبحث عن أعذار لهذه العزلة، كأن تتمّ الإشارة إلى الجهد الذي يتطلبه العمل الذي نحن نقوم به لأنه ليس هناك معايير لكل هذا، ثم أنه ليس باستطاعتنا أن نجد له مقياسا عاما في الشؤون الإنسانية .كل هذا حمْل ثقيل يتوجب علينا تحمله، وفوق ذلك بطريقة لاتسمح لنا بالبوح به حتى إلى أقرب الناس إلينا. مُلتويا تحت ثقل هذه العزلة الضرورية، أترجى في كلّ مرة الحصول على عزلة كاملة، بطريقة لا تتيح لي العودة إلاّ لأكون بين صفوة الرجال، ولتمدّني بالإرادة والقوة في أن أن أبتعد عنهم نهائيّا. فعلى هذه الصورة فقط، هم يظلون في مأمن من التضحيات التي يتوجب عليهم القيام بها، وأن يتجنبوا الرفض من قبل الآخرين. إلاّ أن هذا الرجاء المُعَذّب ليس فقط مستحيل التحقيق، وإنما هو يُنْسَى في نفس اللحظة التي تشرع فيها العلاقات الإنسانية في تغذيتنا، وفي مدّنا بالطاقة اللازمة لنغرق في العزلة من جديد. وما هو عزيز عليك يجد نفسه معرّضا للهشاشة ولضربات قاسية.وحياة كهذه لا تتوقّفُ أبدا عن فرض متطلّبَاتها،من دون أن تكون قادرة على بسط شرعيتها. أن يتخلّصَ الإنسان بشكل إيجابيّ من وضع كهذا الوضع، ومن دون أن يفرّ من هذا المُنْحَدر على حساب المنُحدر الآخر ذاك هو معنى الوجود بالنسبة للفيلسوف. وما أنا أسوقه هنا لا يمكن أن يُشكّل عُذْرا بأيّ حال من الأحوال. لكنني أعلم أنني حين أتحدث بهذه الطريقة،أني سأشدّك إليّ أكثر لأنك قادرة على تَنْصُتي إلى ما يمكن أن يَدعَمَ صداقتنا لكي تمضي إلى أقصى حدودها. يكفي فقط أن نجعل معناها وضروريتَها أشدّ إلحاحا. أن نتكلم عن "تراجيدي" في أوضاع كهذه الأوضاع، لا يعني شيئا آخر سوى الغرغرة بالكلمات من أن نأخذ بعين الإعتبار الوعي الإيجابي الذي يوجد في حياتنا ،وحيث القطيعة ممكنة ومتحققة مثل ذاك الذي يمنحها القوة في نهاية المطاف. أن أغضّ الطرف عن كل" هذا،وأن أمرّ عليه في صمت لأؤكد لك أن الأمر خطأ من جانبي، هذا لا يمكن أن يكون سوى قناع لحجب واقع الحال.وإذا ما قلت لك إن كلّ نشاط خارجي أصبح يزعجني كثيرا ،فأني أكون قد عبرت عن رغبة في رفع طلب للتمتع ب”عطلة” لن تقبل أية وزارة بمنحي إياها، لكني أقول لك"بإن إقتلاع أنفسنا من أنفسنا هو بمثابة الغنيمة. وأمس كان كلّ شيء سابحا في رمزية تكاد تكون مقلقة ومحيّرة لما وصفتني ب"القرصان". وقد تقبلت ذلك بابتسامه-لأني أحسست في داخلي مع "خوف وارتعاشة" بعبور الرياح الباردة والعواصف التي يتعرض لها من يطوفون في البحار. وعندما تروين لي طرائف عن حكايات ساخرة ومضحكة عن"الفلاسفة"، فإني أجد ذلك مُسَليّا ،ومُبهجا للنفس، وسيكون من الغباء والحمق إدانة مثل هذه الأشياء، والنفور منها،وربما تجريمها، لكنها عندما تكون المُبْتَغَى الوحيد للعقول الشابه، وليس مواصلة الدراسة وإنهائها، فإني أعتقد أن أفقا كهذا لن يكون مبهجا بالنسبة للأجيال الجديدة(...) .السهرة التي أمضيناها معا، ورسائلك تقوّي الإعتقاد عندي بأن كلّ شيء على ما يرام،وأنه سيكون كذلك مستقبلا.وإذا ما فرض النسيان عليّ نفسه، فإنه يتوجب عليك أنت أن تتمتعي بالوضع التي أنت فيه كما لم يمكن أن يفعله سوى قلب فتيّ ،واثق من إنتظاراته،وصلب في إيمانه بعالم جديد مُفْعَم بالطموحات والوعود، وحيث عليه أن يتعلم،وأن يكبر كما يحلو له. فليظل كلّ واحد منا في مستوى وجود
الآخر،وفي مستوى حرية الإيمان، والضرورة الحميمية لثقة لا تتزعزع. فعلى هذه القاعدة الصلبة ينهض حبّنا، ويتأكد
تتواصل حياتي بنفس الوتيرة، من دون أيّ تدخّل من جانبي، ومن مون أن أحصل على أيّ إستحقاق...وهو تتواصل بأمان مقلق حتى أنني أريد أن أقنع نفسي بأن الفراغ الذي ستخلفه مغادرتك سيكون ضروريا. العزلة تزداد اتساعا في أفق عملي، والرجاء الذي عبّر عنه هوسرل في أن نوفر أوقاتا أطول للقاءاتنا: كل هذه العوامل مهما كانت الإختلافات بينها، تمهّد لي الطرق لكي أنطلق باتجاه أعمال ومشاريع جديدة. وإذن ستعود أيام العزلة الباردة حيث كيانك متخبّطا في القضايا والمشاكل، يرى نفسه مُنْدفعا إلى الأمام بحماس لا يقهر مثل الضرورة التي تفرضُ نفسَها. وبين وقت وآخر، سيجد كلّ هذا صدى في قلبك إذا ما أنت حافظت على صلابة عقيدتك، وعلى الخلاص وطلب الوحدة لكي تنعمي به وتكوني وفية
في شهر مارس-آذار 1925،إنطلقت هانّا آراندت إلى "كوينسبارغ" ،البلدة التي عاش فيها الفيلسوف الشهير عمانويل كانط ،فكتب لها هايدغر رسالة فيها يقول:"عندماتشتدّ العاصفة حول بيتي الخشبي ،أفكّر في العاصفة التي إندلعت بيننا.كما أتذكّر الجولات الجميلة حيث كانت ضفاف نهر "لاهن" تقود خطواتنا،إلاّ إذا ما فاجأتني لحظة إستراحة وأنا مستغرق في حلم كاف لكي يذكّرني بالفتاة المرتدية معطفا مطريّا ،وقبّعتها نازلة على عينيها مُبرزة نظرتها المفعمة بالطمأنينة ،الفتاة التي إجتازت عتبة مكتبي للمرّة الأولى ،مُقدمة أجوبة مقتّرة،موسومة بالعفّة والتّحفّظ على الأسئلة التي طرحت عليها"...عند صعود النازيين الى السلطة عام 1933،عيّن مارتن هايدغر عميدا لجامعة فرايبورغ .أمّا هانّا آراندت فقد هاجرت الى الولايات المتحدة الأمريكية بعد ان أمضت فترة من الزّمن في باريس.وبعد إنتهاء الحرب الكونيّة الثانية ،أتّهم هايدغر ب"التّعاون مع النازيّة ،غير أن هانّا آراندت أنصفته،وكتبت له العديد من الرسائل معبّرة له فيها عن تضامنها الكامل معه.وعندما أدرط هايدغر سنّ الثمانين ،وكان ذلك عام 1969،وصفته هانّا آراندت ب"ملك الفلسفة"،مشيرة إلى أنّ فلسفته "غيّرت المشهد الفكريّ في القرن العشرين"،و"أطاحت بصرح الميتافيزيقا الذي كان قائم الذّات "،و"كانت بمثابة العاصفة التي أثارتها فلسفة أفلاطون".وأضافت هانّا آراندت قائلة :إنّ فلسفة هايدغر لا جذور لها في القرن العشرين...إنها قادمة من زمن سحيق.وما تتركه وراءها إنجاز .ومثل كلّ إنجاز كبير وعريق ،هو يعود بنا إلى الماضي البعيد
&