بقلم د. خالد السلطاني


يصدح صوت التسجيل النسائي الجميل في حافلات نقل الركاب العمومية في "مالطا"، بجملة باللغة المالطية، تذكر ركاب الحافلة من "ان المحطة التالية، هي..". وتتكرر تلك الجملة قبيل كل محطة قادمة، وهي تكتب بالمالطية (وبالمناسبة فان اللغة المالطية هي اللغة السامية الوحيدة التى تكتب باحرف لاتينية)، والجملة اياها تكتب كالآتي: il-Waqfa li jmiss hi، لكنها تلفظ هكذا "الوقفة الـ يمي هي..". ويعاد التذكير بها في الانكليزية بـ : Next Stop is، بكون اللغة الاخيرة، هي اللغة الرسمية الثانية في الجزيرة. واعتقد ان كلمة "الـ يمي" الواردة في تلك الجملة (..وفي عنوان مقالنا!)، تعني <في الجانب> او <في القرب>، ذلك لان اللغة المالطية الزاخرة بالمفردات العربية، قد تم "تجميد" كلماتها العربية والحفاظ عليها، بذات <النطق> الذي تحدث به السكان العاديون يوما ما، اي انها تحمل اثار "الحكي" واللهجة الشعبية التى كانت تستخدم ايام "الاغالبة" في تونس الذين غزوا الجزيرة وامسكوا بها، ابان الحكم العباسي بمنتصف القرن الثامن الميلادي! (بمعنى آخر، اذا رغبتم ان "تسمعوا"، كلام الناس في <بغداد العباسية> زمن المأمون، فما عليكم الا ان تصغوا الى ما يشبه بما "يتحدث" به المالطيون.. اليوم!). ومالطا امست "اسلامية" منذ 868 ضمن إمارة صقلية، التى وصل عدد المسلمين فيها الى الثلين من مجموع السكان، ولحين طردهم منها على يد النورمان في سنة 1091م. وقبل العرب كانت مالطا منذ 117 م. جزءاً مهما من الامبراطورية الرومانية، ثم باتت تحت السيادة البيزنطية من 395 -868. بيد ان من المعروف ان التجار الفينيقيين، نزلوا الى مالطا في القرن الثامن قبل الميلاد وسكنوا في منطقة "مدينة" (وهي في وسط الجزيرة)، وبعد سقوط فينيقيا في 332 باتت مالطا تحت سيطرة قرطاج الرومان. وقد منح الامبراطور "كارل الخامس" مالطا سنة 1530 الى "منظمة فرسان مالطا". وفي سنة 1798 غزاها الفرنسيون بقيادة نابليون بونابرت، عندما كان ماراً بها في طريقه الى مصر. واسقط حكم الفرسان فيها. ثم آلت الجزيرة الى الامبراطورية الروسية لفترة قصيرة، لكن بريطانيا غزتها سنة 1800، وبقيت فيها لحين استقلال الجزيرة عنها في سنة 1964. اعلنت مالطا عام 1974 جمهورية مستقلة ذات سيادة. ورغم انها تقع ، جغرافياً، في افريقيا، الا انها استطاعت ان تنضم في سنة 2004 الى الاتحاد الاوربي كدولة اوربية.

ومالطا هي ارخبيل من جزر عديدة، تقع في البحر الابيض المتوسط، الى الجنوب الغربي من جزيرة صقلية، قبالة الساحل التونسي. وتعد جزيرة مالطا اكبر الجزر في ذلك الارخبيل، بيد ان طولها لا يتعدى عن 27 كم وعرضها حوالي 15 كم، ( 246 كم مربع) وفي شمالها تقع جزيرة "غوزو" Gozo، ومساحتها اقل من ثلث مساحة جزيرة مالطا (حوالي 67 كم مربع)، في حين جزيرة "كومينو" Comino (الواقعة بينهما) لا يتجاوز طولها عن 2 كم فقط. ومساحة مالطا كلها لا تتعدى 316 كم مربع. في حين يبلغ تعداد نفوسها وفقا لارقام عام 2018 بـ <475701> (لاحظوا "دقة" الرقم، فكل "نفس" فيها له شأن في حساب سكانها!). والديانة الرسمية في مالطا هي المسيحية وغالبيتهم "كاثوليك" الذين تيلغ نسبتهم 97.3 % من السكان، وثمة 1 % من المسلمين والبقية حوالي 2 % ملحدين. يزور مالطة سنويا ما يقارب 1.5 مليون سائح (اي ان "نصيب" كل مالطي او مالطية هناك ما يقارب ثلاثة سواح لكل واحد منهم!).

عاصمة الجمهورية مدينة "فاليتا" Valletta، التى تم تأسيسها سنة 1566، كقلعة مسورة لرد هجمات الاتراك العثمانيين زمن "سليمان القانوني". ووضع حجر الاساس لها احد فرسان مالطا المدعو "جان باريزو دي فاليتا" (1494 – 1568)، الذي اطلق اسمه على تلك القلعة المحصنة التى ستدعى لاحقا: "فاليتا". انها "مدينة" صغيرة جدا بابعاد لا تتجاوز 1 كم × 0.8 كم وبتعداد نفوس <6.444>. وتخطيطها العمراني يعتمد

على "النظام الشبكي" Grid system للشوارع، (كما هو الحال في تخطيط نيويورك، وكذلك تخطيط "مدينة الثورة" في بغداد التى خططها دوكسيادس). ويعتبر (شارع الجمهورية)، الذي يخترق العاصمة من شرقها الى غربها، بمثابة "عصب" المدينة واهم شوارعها، والذي تقع على جانبيه اهم مؤسسات الدولة ومبانيها المهمة.

لا يعني "صِغًر" ابعاد العاصمة (او اية مدينة في الجزر المالطية) بان "رقعتها الحضرية" تنتهي، بانتهاء حدودها البلدية، وبدء "التخوم الريفية" كما هو متوقع. كلا! فما يميز المجال الحضري او نطاقه في مالطا، انه "مستمر" ومتواصل يربط غالبية المراكز الحضرية للجزيرة. فانت لا تشعر بانك قد خلفت وراء ظهرك مركز حضري ما، لانك انتقلت الى آخر. فالحالة الحضرية تبقى متواصلة بلا انقطاع، وتتشعب في اتجاهات عديدة لتربط جميع المراكز الحضرية في الجزيرة وعددها 68 مركزا (او بلدية ). ويسكن في المناطق الحضرية حوالي 95% من السكان. كما ليس من ثمة "ريف" بالمعنى المعروف في مالطا. هناك "أراضٍ" تزرع بمختلف المحاصيل على جوانب خطوط الطرق المتشعبة، وربما توجد "عزب" منفردة ومعزولة، تكون عادة كبيرة جدا وواسعة جدا لسكن عوائل الاقطاعيين (او المزارعين بالاحرى).

لكن الاهم في زيارة مالطا تبقى بالنسبة اليّ، هي "العمارة"! العمارة المالطية "المحفوظة" نماذجها بعناية فائقة، والمصانة هيئاتها بشكل جيد، يرتقي الى المستوى الاوربي. وباستطاعة المرء ان يشاهد في البيئة المبنية للجزيرة نماذج الطرز المعمارية، وخصوصاً امثلة من عصر النهضة، والبروك والركوكو والطراز الكلاسيكي. انها نماذج مصممة بشكل جيد، وتعطي انطباعاً واضحاً لخصائص تلك الطرز واساليبها. والفضل في هذا المجال، بالطبع، يعود الى "المعلمين" الايطاليين بحكم القرب الجغرافي والتشابه في المرجعيات الثقافية. وكما هو متوقع، فان ابنية الكنائس تتسيد المشهد المعماري في كل مناطق الجزيرة حضرياً و"ريفياً". ان نماذجها تحضر في كل بقعة، وفي كل "طريق وزقاق" (والمفردتان الاخيرتان مالطيتان، وتعنيان ذات المعني بالعربي! فاللغة المالطية وان دخلت عليها كلمات عديدة من اللغات الايطالية والانكليزية والفرنسية والاسبانية، فانها تبقى وافرة بالكلمات العربية التى تصل نسيتها باكثر من 40% من مفردات اللغة المالطية!). ثمة كاثدرائيات، اذاً، ضخمة وقديمة، بيد ان اعمال الصيانة فيها مستمرة وباسلوب جيد (خصوصا وان الاتحاد الاوربي هو الذي يشرف بشكل عام على اجراءات الصيانة والحفاظ، ويتكفل بالتمويل ايضاً)، وفاليتا الان كلها اعتبرت كموقع مصان ومدرج في لائحة الحفاظ والعناية من قبل اليونسكو.

يفتخر المالطيون كثيرا بتراثهم المعماري، من هنا يمكن تفسير ذلك الحرص الكبيرالذي يولوه الى مبانيهم وخصوصا القديمة منها. الا انهم، في ذات الوقت، يتغاضون عن نجحات هامة ومبدعة (بضمنها النشاط المعماري)، ربطت احداثها مع وجود العرب المسلمين في مالطا لفترة امتدت اكثر من قرنين من الزمان. ليس من ثمة ذكر مباشر لتلك الحقبة ومآثرها رغم ان العرب هم الذين استحدثوا نظام الري المتقدم، وتوسعوا في زراعة القطن والفواكه، وادخلوا اشجار النخيل الى الجزيرة؛ والاهم ارسوا تقاليد معمارية لا تزال تأثيراتها وتمثلاتها حاضرة في الممارسة المبنية فيها. ولعل مفردة "المشربية" او "الشناشيل"، التى مابرحت ترى في معظم المباني السكنية (وغير السكنية، ايضاً) بصورة واضحة ومتكررة في العمارة التقليدية المالطية، هي من تأثيرات تلك المرحلة "الاسلامية" التى عرفتها مالطا. وعلى الرغم من ذلك الانكار والتغييب، فانهم ما فتئوا يجلون هذا العنصر التصميمي ويفتخرون به، لكنهم لا ينسبوه الى مرجعيته العربية التى "ابدعته" وارست معالمه <العمارة العباسية> كما هو معروف وموثق! عندما تتجول في شوارع "فاليتا" او في ازقة "مدينة" وشوارع "المليحة" او عند دروب "الرباط" في جزيرة "غوزو"، ستجد انواع من فورمات متعددة ومتنوعة لهذا العنصر التصميمي على واجهات مبان كثيرة، حائلاً دخول اشعة الشمس المباشرة ومانعاً اياها من دخول الاحياز المغلقة، ومانحاً، في الوقت ذاته، تلك الواجهات مشهداً مميزا لا يمكن ان ينسى بسهولة!

في مالطا، بحثت كثيرا عن مبانٍ مصممة من قبل المعمار المالطي المعروف "ريجارد إنغلاند" (1937) R. England . سبق وان اطلعت على نتاج هذا المعمار في بدء الثمانينات، عندما دعاه "رفعة الجادرجي" (وكان مستشارا، حينها، في امانة العاصمة)، للعمل والمساهمة مع "فنتوري" و "اريكسون" وريكاردو بوفيل ومعاذ الآلوسي وغيرهم من المعماريين في انجاز مشاريع طموحة الى بغداد. وقدم "إنغلاند" مشروعه لاعمار منطقة باب الشيخ في رصافة بغداد وكذلك مساهمته في شارع حيفا في الكرخ منها. كان مقترحه (الذي انشر صورته هنا) لباب الشيخ، وقتها، لافتا وجريئا، وتطلعت الى رؤية تصاميمه الاخرى في بلده. بيد اني لم اجد مثالا واحدا له هناك. وتبين انه صمم "دارات" عديدة ومواقع سياحية وفنادق في انحاء مختلفة من الجزيرة لم يتسن لي رؤيتها، ربما لانها لم تكن ضمن مساراتي التى اخترتها للتعرف عن مناطق مالطا. لكني علمت بانه اشترك في تقديم مشروعين مهمين الى "فاليتا"/ العاصمة، احدهما "اعادة تصميم الاوبرا" التى هدمت اثناء الحرب العالمية الثانية، والمشروع الثاني مقترح مبنى برلمان جديد. وكلا المشروعين لم يقبلا ولم ينفذا بالطبع. وربما، كان ذلك في مصلحة البيئة المبنية في فاليتا. واقول هذا، رغم اعجابي السابق بتصاميم هذا المعمار والشاعر، والاكاديمي، والمصور الفوتوغرافي "ريجارد انغلاند"! اذ جاءت لغة المقترحين طافحة بنكهة كلاسيكية بدت لي عائدة الى ذائقة ماضوية عفا الزمن عليها! على ان بديل هذين المقترحين، كان موفقاً وثرياً. فقد ابدع المعمار الايطالي ذو الشهرة العالمية "رينزو بيانو" (1837) Renzo Piano، في تقديم حلول تصميمية لهذين المبنيينّ غاية في الحداثة (او في الاحرى في صميم ما بعد الحداثة!)، مضفياً على الموقع المختار لمسة ابداعية متفردة، ان كان ذلك فيما يخص عمارة البرلمان او مقترح دار الاوبرا.

في مبنى برلمان "رينزو بيانو"، تحضر "المشربية"، تلك المفردة المحببة والاليفة في عمارة "فاليتا" وفي عموم عمارة مالطا. وتتبدى، هنا، في المبنى بصيغة مئوِّلة "هرمنيوطيقياً"، تعيد الى الذاكرة "اميج" شناشيل البيوت الشرقية وفورماتها المتنوعة. لكنها تقف بعيدة عن الاحساس بممارسة استنساخ تلك الشناشيل او محاكاتها الشكلية. بل ويعزو مصممها الايطالي المعروف بان"حضور" تلك المفردة في واجهات المبنى، مبعثه، بالاساس، "معنى" اسم مالطا ذاته، رافضاً الاشارة الى مرجعيتها الشرعية، ونافيا بذلك علاقتها مع العمارة الاسلامية. ففي رأي المعمار، ان الاشكال الحجرية الكلسية الناتئة التى استخدمها امام فتحات النوافذ، والتى يوحي شكلها بهيئات خلايا النحل؛ هو تعبير "مجازي" عن معني <مالطا>، التى يذهب ان اسمها مشتق من الكلمة الاغريقية "ميلي" ، التى تعني "عسل"، كما دعاها الرومان بـ"ميليتا"، وهو، على الارجح، "النطق" الروماني للكلمة الاغريقية. واياً تكن مرجعبات التصميم، فنحن ازاء مبنى اغنى حضوره المكتمل والناصع المشهد المعماري المالطي، مثريا بذلك، ايضاً، خطاب عمارة ما بعد الحداثة!

... تبقى جملة التسجيل الصوتي المسموع في حافلات مالطا للنقل العمومي <المحطة القادمة هي..>، التى اقتبسنا استعارتها الرمزية باللغة المالطية عنواناُ لمقالنا هذا: <الوقفة الـ "يمي">، تبقى تشي بمتعة التعرف على "دروب مالطا المتشعبة" في اديم تلك الجزيزة الصغيرة؛ المفعمة اجوائها والمكتنزة بانواع عديدة من المرجعيات المتنوعة، التى قدّر لها ان تسم ثقافة الجزيرة بالتعدد، وتغتني به، رغم مساحتها المتواضعة الابعاد! □□

معمار وأكاديمي

الصور:

1- شارع الجمهورية، فالتا، مالطا
2- زقاق في فاليتا، مالطا.
3- كاثدرائية القديس جون، فاليتا، مالطا.
4- شارع في "مدينة"، وسط جزيرة مالطا، مالطا.
5- مبنى البرلمان، (2011 -2015)، المعمار : رينزو بيانو، فالتا، منظر عام.
6- مقترح اعادة تعمير منطقة باب الشيخ، بغداد، (1982)، المعمار: ريجارد انغلاند، جامع الخلاني.