إستحضرت سلسلة من النشاطات والفعاليات الثقافية، خلال الأيام القليلة الماضية، السنوات الثمان التي أمضاها الروائي الكولومبي في مدينة برشلونة الإسبانية.
من خلال لقاءٍ ضمّ مجموعة من الكتّاب والأصدقاء وبعض المؤسسات أقيمت سلسلة من النشاطات والفعاليات الثقافية من 6 إلى 13 نيسان/أبريل الحالي، لتسليط المزيد من الضوء على أهمية السنوات الثمان التي إستقر خلالها الروائي الكولومبي غابرييل غارسيّا ماركيز، الحاصل على جائزة نوبل للأداب عام 1982، في مدينة &برشلونة الإسبانية، والتي كان يعود إليها بإستمرار. ومن ضمن الفعاليات الثقافية البارزة التي تخللت هذه التظاهرة الأدبية موائد مستديرة ضمّت كتّاب من أمريكا اللاتينية الذين لا زالوا يعيشون حتى هذا اليوم في المدينة، مثل بيليالوبوس، رونكاغليولو، وفريسان، وأصدقاء عاصروا تلك السنوات، مثل غوتيسولو، ونوريا أمات، إضافة إلى مجموعة واسعة من ورش العمل التي تعكس التكريم العظيم للروائي الكولومبي الراحل.
فقد عاش غابرييل غارسيّا ماركيز في كاتالونيا لمدة ثمان سنوات، من 1967 إلى 1975. وشهدت مسيرته في مدينة برشلونة، طفرة كبيرة لم يشهدها أديب من قبل: حيث تحوّل من كاتب لأقلية إلى واحد من أبرز الروائيين شهرة في العالم. وكانت الهدية التي طلبها عندما بلغ عدد النسخ التي تم بيعها من روايته "مائة عام من العزلة" المليون نسخة، أن يتم ترجمتها إلى اللغة الكاتالونية وعلى يد صديقه ليسنر. ومنذ العام 1975، كان الأخير الناشر الرئيسي لأعمال غارسيّا ماركيز في برشلونة. وفي منتصف سنوات الستينات أدارت وكالة كارمن بالسيلس مشواره المهني، إقتصادياَ وإستراتيجياَ. وعلى الرغم من عدم العيش في العاصمة الكاتالونية منذ العام 1975، غير أن الكاتب كان يزورها بإنتظام، تقريباً كل عام. وبعد المدة التي مكث فيها في الفنادق، إشترى شقة إحتفظ بها حتى أواخر أيامه.
&أن قائمة المفارقات والعلاقات العاطفية والمشاريع والصداقات التي عاشها غارسيّا ماركيز في برشلونة لا تنتهي أبداً.&
ومن المستغرب حتى الأن أنه لم تحتفل أية مؤسسة بما يماثل هذه الفعالية الثقافية وسلسلة الندوات وحلقات العمل والآثار والمطبوعات، التي أطلق عليها "ملامح غابو في برشلونة"، والتي إنعقدت في الفترة من 6 إلى 13 نيسان/أبريل الحالي، تحت رعاية القنصلية الكولومبية، وأوبرا سوثيال لا كايكسا وكاسا أميريكا كاتالونيا، وبدعم من وسائل إعلام وكياناتٍ أخرى، مثل لا بانغوارديا، وبرشلونة سيوداد للآداب، ومكتبة برشلونة، ودائرة الصحافة السردية في يو آي بي، ووكالة كارمن بالسيلس، وإف إن بي آي، وهي المؤسسة التي أنشأها الكاتب من أجل الترويج لصحافة راقية. وتعدّ هذه المبادرة الأولى من نوعها فيما يخص علاقة الكاتب بالمدينة. وتشير بيلار كالديرون، المسؤولة الأولى في القنصلية الكولومبية، والتي عملت كصحفية في المجلة الكولومبية "كامبيو"، التي كان يملكها غارسيّا ماركيز، &قائلة "نحن نحاول توجيه نظرة الناس إلى أمر في غاية الأهمية، وهو أن هذه واحدة من المدن الهامة في حياة غابو".
وعلى الرغم من أنه، من ناحية، تُعدّ هذه الفعاليات الثقافية إحياءاً لذكرى مرور خمس سنوات على وفاة الكاتب، والتي صادفت يوم 17 من نيسان/أبريل الحالي، غير أنها &ليست مكرّسة لتحليل أعماله وماضي حياته، بل أنها تعمل من أجل التركيز أكثر على إبراز إرثه وأفكاره المستقبلية. من جانب، قد قامت مجموعة من كتّاب من أمريكا اللاتينية، الذين يقيمون حالياً في المدينة ، أمثال - سانتياغو رونكاغليولو، لاورا ريستريبو، رودريغو فريسان وخوان بابلو فيليالوبوس- بمناقشة الجوانب الإيجابية، وكذلك السلبية التي تتميّز بها برشلونة كمكان للكتابة. ومن جانبٍ آخر، حاولت مجموعة مختارة من أصدقاء الحاصل على جائزة نوبل- لويس غوتيسولو، نوريا آمات، وويندي غيرّا- يوم الخميس الفائت إستحضار اللحظات التي أمضوها برفقة الكاتب الكولومبي، بينما تناولت موائد مستديرة أخرى القضايا المتعلقة بالتغييرات التكنولوجية في الصحافة، وتقارير الرحلات، أو العلاقة التي تربط بين الموسيقى والأدب الكاريبي. ومن بين أبرز من تحدثوا في هذا المجال ، أسماء مثل ميكيل مولينا، وخافيير ألديكوا، ومارتن كاباروس، وألبرتو سالسيدو راموس.
عقب طبع "مائة عام من العزلة" في بوينس آيرس، إنتقل غارسيّا ماركيز إلى برشلونة، وذلك إستناداً إلى نصيحة كارمن بالثيلس، وأيضاً لإفتنانه بالهالة الأسطورية للمدينة، تلك التي نقلها إليه رامون فينييس. كانت طائرة الروائي قد حطّت على أرض مطار برشلونة في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1967، وبعد قضاء بضعة أيام في العاصمة الإسبانية مدريد، قرر التوجه إلى برشلونة، برفقة زوجته، مرسيدس بارجا، وأبنائه رودريغو وغونزالو، في سيارة مستأجرة. وقد أقام في المرة الأولى في شقق فندقية في شارع لوقا. وبعد فترة قصيرة، إنتقلوا إلى شقة رقم 168 والواقعة في شارع "ريبوبليكا أرخينتينا"، ومن هناك، في 6 شباط/فبراير 1969، إنتقلوا مرة أخرى إلى شارع كابوناتا، رقم 6، في حي ساريا. وفي الركن ذاته، كان قد أقام صديقه الحميم، البيروفي ماريو فارغاس يوسا.
أما الرواية التي كتبها غارسيّا ماركيز في برشلونة فقد كانت "خريف البطريرك"، والتي نشرت في ذات الوقت الذي غادر فيه المدينة، أي في عام 1975. وفي الرواية يكتسب البطل الديكتاتور "بعض تفاصيل الوسائل القمعية التي كان يمارسها فرانكو ضد الصحافة"، وفقاً لما رواه الكاتب ذاته.
غير أن تلك الرواية لم تكن "الكتاب البرشلوني" الوحيد لغارسيّا ماركيز. ففي العام 1969 أسست صديقة الكاتب الكولومبي بياتريس دي مورا دار "توسكيتس" للنشر، بمعية المهندس المعماري أوسكار توسكيتس، زوجها في ذلك الحين، حيث طلبت منه نصاً يساعد في دعم الدار الجديدة. حينها ردّ الكاتب عليها مازحاً، مثلما يتذكر توسكيتس &"سوف أعطيكم نصاً ينقذ دار النشر"، وذلك النص كان عبارة عن مجموعة من المقالات نشرها غارسيّا ماركيز في الصحف الكولومبية حول غريق مثير للجدل. وفعلاً، مثلما يقول توسكيتس، تلك الحكاية كانت قد أنقذتنا، إذ قمنا بإصدار 80 طبعة منها، وتحولت "حكاية غريق" إلى الكتاب الأكثر مبيعاً في تأريخ دار "توسكيتس" للنشر. & & & & &&
ويتذكر توسكيتس قائلاً "كان يحب الحديث عن ما يكتبه، في يوم ما قال لي: " كانت لدي فكرة رائعة لقصة بفضل مشكلة عانيت منها مع الكهرباء". ورواها لي في المكان ذاته. ويستطرد توسكيتس"في أوقات الضائقة الإقتصادية، كان غابو يقول لأبنائه: "لا تقلقوا، لأنه في يومٍ من الأيام سوف أعود ومعي حقيبة مليئة بالدولارات".
يقول لويس ميغيل بالوماريس، إبن كارمن بالسيلس، ومدير الوكالة منذ عام &2015 "كان الروائي الكولومبي يبدأ روتين عمله اليومي بالإنكباب على الكتابة مرتدياً ثوب ميكانيكي &حتى منتصف الظهيرة، حيث كان يستقبل أصدقائه أو يخرج للتنزه سيراً على الأقدام، أو لقراءة الصحيفة المسائية، سواء الأخبار أو تيلي/إكسبرس، ومن ثم يناقش ما يرد فيها مع والدي أو مع الجيران".&
لم يكن يبدي غارسيّا ماركيز مساندته للحركات التي كانت تقف ضد فرانكو، في برشلونة، لكنه لعب دوراً في المؤمرات السياسية التي كانت تحاك في أمريكا اللاتينية، وغالباً ما حاول الإتفاق مع الأطراف المتنازعة. وقد إلتقى الكاتب في شقته في برشلونة بالعديد من الثوار والسياسيين، وشخصياتٍ مثل ريجيز ديبراي، وغريغوريو لوبيز رايموندو، أو بابلو نيرودا. &
إثر تحوله إلى مؤلف شهير، أصبح غارسيّا ماركيز يسافر كثيراً، برفقة زوجته. وتكشف بيرتا مونيوز البعض من جوانب حياة الكاتب في تلك الفترة قائلةً "كنت حينها أقيم في منزله، أرافق الصغار رودريغو وغونزالو. كنت أتقمص شخصية الكنغر والسكرتيرة، وأنام في سرير الزوجين".
والبعض من الأصدقاء يتذكرون تلك الأوقات التي كان يأخذ الكاتب فيها قيلولة فريدة من نوعها، يقول مونييز "كان نصف نائماً، في أي مكان، ويبدو أنه لا يستمع إليك، لكن فجأةً تراه يطلق عباراتٍ عظيمة". ويتذكر بالوناريس أنه "كان متخصصاً في أخذ القيلولة على البساط: في منزل والدتي كان يتمدد على الأرض"، مضيفاً "كان شخصاً محبوباً، وسهلاً للغاية، لم يكن معقداً. لم يكن يصرخ مطلقاً، أو يوبّخ الأطفال. كان محباً لإثارة الضحك، وشديد الملاحظة". &
وتتذكر كريستينا بيري روسي من أوروغواي قائلةً "في أحد الأيام، دعانا أنا وخوليو كورتازار لتناول الطعام في رينو، وبدا مندهشاً جداً عندما رآنا نطلب بيض مقلي مع بطاطا". وبفضل نصائح غابو، كان كورتازار يعثر على بلوزات وقمصان بقياساتٍ كبيرة "إذهب إلى مخازن الكورتي إنكليز، أنا أشتري بدلاتي من هناك". إعتاد غارسيّا ماركيز على إرتياد العديد من المطاعم، على إمتداد مراحل طويلة، البعض منها إختفى، والبعض الآخر لا يزال قائماً حتى اليوم".
لكن، لو أُجبرتُ على إختيار واحد من بين العديد من الذكريات التي تركها غابو خلفه في برشلونة، يؤكد بالوماريس على "نصيحة قدمها لي قائلاً: نوي، تذكّر دائماً، العفوية ستفتح أمامك جميع الأبواب". وأنا كذلك. &&
&