راقبَ الإنسانُ، في بداية تكوينه العقلي، حركةَ كلٍّ من الشمس والقمر في السماء. فلاحظ أنَّ الشمس تشرق من مكانٍ وتغرب في مكانٍ بشكل منتظم؛ الأمر الذي لم يكن متوافراً في تحركات القمر الذي كان كل فترة على حال! ناهيك عن التبدُّلات الدورية التي تطرأ عليه من حيث الشكل والحجم.
لذلك قام الإنسان، في ما بعد، بربط سلوك الرجل وتفكيره بحركة الشمس، ومزاجية المرأة وتقلُّبات سلوكها بتحركات القمر. لكنَّ الأمر لم يتوقف عند هذا الحدّ، بل تجاوزه ليطاول معظم القواسم المشتركة التي تربط الرجل بالشمس والمرأة بالقمر. ولقد طوَّر علم نفس الأعماق "ميتا سيكولوجي" بدوره مفاهيمَ الذكورة والأنوثة لتصبح شاملةً لكل تفاصيل الكون، من حيث الشكل والطاقة والمسار والسلوك وغير ذلك ، مما أدَّى في نهاية الأمر إلى الفرز الكلّي وجعل أي شيء موجود إمَّا مذكَّراً وإمَّا مؤنثاً... إمَّا شمساً وإمَّا قمراً. فعلى سبيل المثال، يستخدم الذكرُ المنطق الاستدلاليَّ في تفكيره، أي أنه ينطلق في حلّ المشكلة التي يواجهها بالتسلسل من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) ثم (ج) وهكذا.
وهو بذلك يسير بالرتابة ذاتها لإيقاع الشمس المنتظم والديمومي إلى نهاية المنطقية، بينما تعتمد الأنثى على الحدس والتخمين في معظم تفكيرها، في نشاط فوضوي - لامتمايز وغير مستقرّ يُحاكي تماماً إيقاع سير حركة القمر.
أيضاً يرتبط الإشراق الفكري والعلمي بالذكر (الشمس)، بينما يمثّل تخمير الأفكار وتخصيبها السلوك الأنثوي (القمري). إن متابعة سلوك المرأة وتفكيرها الممزوجَيْن بالعاطفة والحسّ العالي، يجعلنا نعتقد بحتمية تفرُّعه عن مشاهدات الإنسان الأول لسلوك القمر وتأثره به. وإذا ما بحثنا في كنوز اللاشعور الجمعي للإنسان وما نتج عنه من فكر وأدب، فإننا سنجد الكثير من الشواهد والأدلَّة على صدق الربط ما بين القمر والمرأة وبين الرجل والشمس.
فالقمر سيّد الليل، حيث لقاء العشَّاق وطيب السهر والمسرَّات، وحيث تسود المشاعر والعاطفة التي هي "وظيفة" الأنثى الأساسية على الأرض. وهبوط الليل يشبه رمزياً هبوط الإلهام و"وحي" الإبداع، وجميعها رموز مؤنَّثة. والقمر يتلقَّى الضوء ثم يعكسه تماماً كالأنثى المستقبلة والمتلقية والمنفعلة، بينما الذكر فاعل (ثاقب) كضوء الشمس. والقمر سيّد السماء المعتمة حيث الغموض والعمق والأسرار والحكايات وجميعها ذات
طابع مؤنث. كما أنه يُشكّل مع الليل رمز الموت، والموت مرتبط باللحد والقبر والعدم وجميع هذه المصطلحات ترمز إلى رحم الأنثى في اللاشعور الجمعي! وتظهر في الأحلام الليلية. وفي الميثولوجيا الرافدية نجد ثور عشتار (المؤنَّث) بقرنين يشبهان القمر في مرحلة الهلال. بل وحتى في الغزل نجد بأن الشاب غالباً ما يشبّه محبوبته بالقمر.

باحث سوري في علم النفس التحليلي.