&يمثّل هذا الكتاب نوعاً جديداً من الكتابة ألا وهو "البيبليوميموار" أو مذكرات بحثية والتي تجمع ما بين تأمّلات نقديّة في الكتب والكتّاب الذين ساهموا في تشكيل رؤى أدبيّة وفلسفيّة لدى الكاتب من جهة وعلاقة الكاتب بالعائلة والمكان وفكرة الوطن والترحال والذاكرة والأدب والكتابةمن جهة أخرى."شجرة الكينيا" هي من السرديات الفردية ومن السلالات الفرعية للأدب غير التخييلي في ما بعد الحداثه والتي تتميّز بطرحها لاعترافات شخصيّة جامحة تأخذ شكل المذكّرات واليوميّات من جهة ومبالغة وتخيّل الأشياء كما في الرواية من جهة أخرى.
يجمع الكاتب في هذا العمل الأدبي بين عدد من المراجع الأدبيّة (بيبليو) التي تشكّل فهرسا يصقل الهويّة والكتابة و ممارسة الانتماء، والمذكّرات الشخصيّة (ميموار) وأدب الترحاللتكون صدىً لأصوات متعددة: الصوت الحسود للمنفي، الصوت النّاقدلأستاذ الأدب، الصوت السّاذج للطفل الذي ينمو كل يوم، صوت الرحّالة الفضوليّ، والصوت العاطفيّلكاتب السّيرة الذّاتيّة.&
في 13 عشر حلقة، ينغمس الكاتب جاهداً في المحاولة عن إجابة سؤال جوهري يتطرّق له في عبور المطارات والجسور وحتى في المقاهي والمحادثات العابرة: "من أين أنت؟" أو "من أين تأتي؟" "الأخ من وين؟" يرى الكاتب بأن فرديّة الإجابة تهمّش أهميّة أسس صناعة الهويّة أو الأنا، ألا وهو تعدديّة التجارب الثقافيّة ومرونتها في وجه الجغرافيا الأحاديّة. فقد يقود الأخير الىالعنصريّة وربّما الفاشيّة. وقد يرسل الحنين المتقع للماضي الفرد إلى التقوقع في سوداويّة خطيرة يصعب ترجمتها الى إبداع أو إبتكار.
يرفض الكاتب ها هنا أن ينتمي لجغرافيّة أو قوميّة منفردة. الديك من أصل فلسطيني من قرية صغيره في الضفة المحتله تسمّى كفر الديك, ولد في الأردن نتيجة لتهجيير والده بعد حرب ال1948 ونزوح والدته بعد حرب ال1967، يحمل الجنسيّة الألمانيّة، يكتب حصرا بالانجليزية وقضى عشرينيّاته في الدراسه والتعليم في بريطانيا. تأمّلات الديك تعكس تجربته الخاصه في فهم الوجود والكينونه وكسر حواجز القوقعات المحليّة للوصول الى العالميّة.&
يبدأ الكاتب الحلقة الأولى بعنوان "فلاديمير نابوكوف، الإنسلاخ، والبصل وزنبق الماء" قائلا: "كان يا ما كان، وفي يوم من الأيّام، صحوت لأجد نفسي منفيّاً فلسطينياً كما وجد جريجور سامسا نفسه مسخاً في رواية الكاتب اليهودي الألماني فرانتز كافكا."&
يعبّر الكاتب عن استيائه عن ما يدفعه المنفي الفلسطيني أو الأرمنيّ أو الباكستانيّ لحادث عرضيّ يسمّى الولادة ولحاضر غائب يسمّى التاريخ ولفكرة متخيّلة اسمها الوطن. يتطرّق الكاتب ها هنا الى قصّة "أليس في بلاد العجائب" حيث يتأمل في مغامراتها وانسلاخها وتحولات جسدها؛ فهي لا تتحكّم فيما هي عليه.حيث ترد القطة على تساؤلات أليس: "إن كنت لا تعرفين يا أليسإلى أين أنت ذاهبة، فكل الطرق إذاً تؤدّي الى روما."
يتطرّق الديكأيضا الى قصّة غسّان كنفاني القصيرة "أرض البرتقال الحزين" حيث يسترسل الكاتب في استخدام البرتقال كاستعارة تعبيريّة لدحض الوطن وفشل الأنظمة العربيّة في التعامل مع انتهاكاتالمحتللحقوق الانسان. يعبّرالديك أيضاً عن عدم رضاه من ملك إيثيكا ومقاتل طروادة وصاحب فكرة الحصان الذي بوساطته انهزم الطرواديون، حيث يرى الكاتب أن حلم أوديسيوس في الرجوع الأزليّ الى وطنه بعد الإغتراب لعدّة سنوات تطغو عليه سمة الكآبة وأن شخصيّة أوديسيوس ليست ديناميكيّة ولا متغيّرة، فالحقيقة هي أن أوديسيوس مشتّت الذهن وصبره عديم النفع لأنّه مسجونفكريّا في كنفات الماضي ورومانسيّته العمياء.
في حلقات أخرى من الشّتات، يجد الكاتب تشابهات بين الأدب العربي والأدب العالمي ككتابات محمّد الماغوط السّاخرة وكتابات صامؤيل بيكيت في المسرح العبثيّ، وبين سلمان رشدي ونجيب محفوظ في تطرّقهما للمحظورات المجتمعيّة كالدين والجنس. ولا تقتصر تأمّلات الكاتب على الأدب فقط، بل أنّه يتطرّق للتأمّل فيسيناريوهات تلفيزيونيّة كرائد الأفلام الفلسطينيّة "عرس في الجليل" (1985) وأخرى كالنّصب التذكاري على نهر الدّانوب في بودابست والمسمّى ب "أحذية على ضفّة الدّانوب".&
من جانب آخر يصول الكاتب ويجول في مساحات المدن وزقاقها من شمال انجلترا وألمانيا واسكتلندا وشمال غرب رومانيا وجنوب سوريّا وقرى فلسطين ورام الله وحتى مداخل وزقاق مخيّمات اللّاجئين ومدارس الأونوروا وشواطيء يافا. يلعن الكاتب معاهدات أوسلو ويناقش التاريخ الفلسطينيّ وتبعاته على عائلته كمثال على ثلاثة أجيال من التهجير والشّتات. يناقش الكاتب النزوح اللّغوي ما بين العربيّة والانجليزيّة والامبرياليّة الثقافيّة ما بين الأردن وفلسطين من جهة، وألمانيا وبريطانيا العظمى من جهة أخرى، ويقارن ما بين حكوماتها ومجتمعها المدنيّ وأنظمتها التربويّة وماهيّة الذاكرة من خلال سرديّات قصصيّة قصيرة منها ترعرعه في إربد شمالي الأردن حيث ذكريات أيلول الأسود وقناة اسرائيل الثانية التي كانت تبث بوضوح في غياب أي قنوات بث فلسطيني.
يروي الكاتب أيضا أهميّة التصوير في تسجيل الذّاكرة حيث كانت والدته ترتّب صور الأبيض والأسود في جارور سميك وعنوانه "ما قبل فلسطين"، وجارور آخر يليه بعنوان "ما بعد فلسطين"، وجارور ثالث وأخير بعنوان "في أماكن أخرى". كانت هذه الجوارير فصولا لكتاب لم يكتب، فألبومات الصور ما عادت توثّق مكان وزمان العائلة، بل أصبح المنفى جارورا رابعا من غير أيّة عناوين. الصور تفتح بابا لذاكرة التاريخ ولصراع دائم للمنفيّ بين الحاضر والماضي، وبين التذّكّر والنسيان، فكلّما حاول المنفيّ جغرافيّا أو نفسيّا أن ينسى الماضي، تزداد نسبة التذكّر.&
يعود اسم الكتاب لنوع من أنواع أشجار الكينا والتي تتميّز بأوراقها ذات الجوانب غير المتساويه، حيث جرت العادة الطبيعيّة أن تشكّل أوراق الأشجار دائرة مغلقة، باستثناء هذا النوع من الأشجار.حيث يستخدم الكاتب إستعارة الشجرة وأوراقها ذات الجوانب الغير متساوية لبرهان أن كل دائرة مغلقة (كالهويّة أو القوميّة أو الوطن أو الدين) تصبح خطيرة اذا اعتمدت في دائريّتها على مركزيّة أحاديّة. فورقة الكينا ليست دائرة مغلقة بل تشكّل عدّة دوائر حلزونيّة لولبيّة في تحرّك مستمرّ وديناميكيّة ليست مغلقة ولا نهائيّة فهي ليست كينونة وإنما تضحي متحوّلة دائمة تدور حول عدّة مراكز.&
عدم تساوي الجوانب أيضا يترك النهايات مفتوحة وهذا يعطي مجالا أكبر للاختيار والتطوّر وتمثّل عشوائيّة بعكس أحادية الورقات الأخريات المغلقات والمنتهية. شجرة الكينا هي أيضا مثال عظيم تعلّمنا ايّاه الطبيعة ألا وهو التناقض. فشجرة الكينا وطن للنحل الذي يتغذّى على زهرها في الشتاء ومنفى للباعوض الذي تقتله رائحتها في الصيف. ويستخدم صمغها في صناعة المبيدات الحشريّة من جهة ومستحضرات التجميل من جهة أخرى. كما وأنّ خشبها يستخدم في صناعة الآلات الموسيقيّة وهو ذات الخشب الذي يحرق نفسه في الأجواء الصيفيّة الحارة، حيث تنمو الشّجرة من تلقاء ذاتها متغذيّة على رماد نفسها. شجرة الكينا تعطي دروسا للانسان بأن علينا أن نموت لنحيا، بأننا المتعدّدون في ذاتنا وبأن المرونة والتغيير أساس التطوير والنموّ.
علاقة الكاتب بشجرة الكينا ليست فقط استعاريّة، فيلتقي الكاتب في هذه الشجرة منذ الصّغر في حديقة منزل والديه تارة، وتارة في كفر الديك معقل أهله في الضفّة الغربيّة المحتلّة حيث تفصل شجرة الكينا بين الجزء الشماليّ والجنوبيّ من القرية وتحجب عن المارّة بشاعة المستعمرة الاسرائيليّة التي تطلّ فوقها من كل جانب.&
الكتاب يشبه في طيّاته مصطلح إيميل حبيبي في روايته "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" وهو التشاؤل حيث ساديّة التفاؤل ومواجهة الموت بالتهكّم. فالنازح طوعا أو قسرا هو برمائي الكينونة، وعند العبور تصبح عمليّة التنفّس صعبة، فأيّة أصداء ميتافيزيقيّة أو وجوديّة للردّ عن سؤال الهويّة تصبح مثيرا للشفقة. "أنا بلاد من حروف" أو "أنا الطريق لا الوصول" أو "أنا مواطن العالم أجمع". هذا كلّه هراء. فعند العبور، ما أنت سوى هيكل عظميّ مغلّف باللحم البشريّ، والصوت الذي يترك الجسد ليس ملكا لك. أنت لست المسافر بل الحقيبة. المجنّدة ببندقيّتها تؤكّد أنّك لا أحد سوى ما تراك عليه هي بأعينها.&
يتبع ال 13 حلقة "117 ملاحظة للذّات"والتي تعتبر اعترافيةتحفز على التطوير الدائم والمراجعة الذّاتيّة. كتاب الديك هو تطبيق لنوع جديد من الأدب والذي يعتبرالأوّل من نوعه في بلاد الشّام والأوّل في الأردن باللغة الانجليزيّة.&
&