"مدن النمل" الصادر عن دار "تبر الزمان" في الربيع الماضي، هو أول عمل ابداعي بالمعنى الحقيقي للكلمة للدكتور عبد الرحمان أيوب المعروف بأبحاثه المرموقة في مجال الأدب الشفوي، وفي سيرة الجازية الهلالية، وفي الحكايات الشعبية في تونس، وفي العالم العربي مشرقا ومغربا، وأيضا في افريقيا وأمريكا اللاتينية. وفي فقرة من فقرات كتابه هذا هو أشار إلى أن المحاكاة في الأدب-وهي غالبا ما تتم عن جهل وعن بلاهة-لها عواقب جسيمة. ولعله انتقد من خلال هذه الفقرة، من دون وعي منه على ما أظن، جميع الأدباء التونسيين الذين حاولوا محاكاة الأديب التونسي الكبير محمود المسعدي في عمليه الشهيرين "حدث أبو هريرة قال..."، و"السد"، إلاّ انهما فشلا في ذلك فشلا ذريعا، ولم يهتم بأعمالهم لا النقاد ولا القراء. ويعود ذلك إلى عدم ادراكهم لخفايا عالم المسعدي الأدبي والفلسفي فظنوا أن الاكتفاء بحشو نصوصهم بكلمات وألفاظ مُستخْرجة &من القواميس &القديمة &يضمن لهم الارتقاء إلى مستوى معلمهم. والحال أنه كان على هؤلاء أن يعلموا أن المسعدي ابتكر لغة خاصة به وحده، لا اعتمادا على القواميس المغبرة، بل انطلاقا من قراءات معمقة لأعلام التراث العربي القديم من أمثال الجاحظ، والتوحيدي، والاصفهاني، وابن المقفع، &ومحي الدين بن عربي وغيرهم. كما أنه اكتسب معرفة واسعة بالفلاسفة القدماء والمحدثين &لتأتي أعماله ثرية بالأفكار الهامة حول العديد من القضايا التي كانت تشغل النخبة التونسية والعربية في النصف الأول من القرن العشرين. ولعلها لا تزال تشغلها إلى حد هذه الساعة.
ومن المؤكد أن د. عبد الرحمان أيوب تأثر مثل كل أ بناء جيله، جيل الستينات، &بأدب محمود المسعدي. &ورغم أننا نتحسس في "مدن النمل" اشراقات المسعدي اللغوية والاسلوبية والفكرية، فإننا لا نعثر في هذا العمل على فقرة واحدة توحي بمحاكاته، أو تقليده بشكل سطحي وبشع. وبذلك أفلح د. عبد الرحمان أيوب في أن يكون نفسه، وليس صورة باهتة لا لصاحب "حدث أبو هريرة.."، ولا لغيره. وفي كتابه هو يرحل بنا بطريقة عجيبة وممتعة إلى "امبراطورية" النمل التي تتسع لها الأرض كلها باستثناء القارة القطبيّة الجنوبية.
ومعلوم أن للنمل حضورا قويا في الكتب السماوية، وفي الأساطير، وفي آداب العالم. فقد جاء في التوراة :" سرْ نحو النملة أيها الكسول، أنظر في مسالكها حتى تصبح &حكيما. ليس للنملة قائد ولا رقيب ولا مرشد تدخر في الصيف قوتها، وتجمع أثناء الحصاد أكلها". &وفي القرآن هناك سورة" النمل"، وفيها إشارة إلى أن النبي سليمان كان يقود جيشه في واد. فلما انتبهت نملة إلى ذلك قالت "أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون". وكان النبي سليمان عارفا بلغة الطير والحيوان والحشرات. لذا أمر جنود بسلك طريق آخر لكي لا يؤذي مملكة النمل. ويقال أن الاسكندر المقدوني خسر معركة حربية فجلس على صخرة وهو مُغْتمّ حزين. فلما شاهد نملة تَكدّ في الصعود بحبة قمح إلى أعلى الصخرة، استعاد حزمه، ورباطة جأشه ليمضي إلى الحرب من جديد. وفي قصيدة "الصرصور والنملة" للشاعر الفرنسي لافونتين، تسخر النملة التي جمعت محصولها وقت الحصاد من الصرصور الذي أمضى كامل الصيف في الغناء. فلما حلّ الشتاء، جاء يطلب منها المعونة &لكي لا يموت جوعا.
ولا يزال عالم النمل يجذب الأدباء والباحثين. وقبل سنوات &حصلت رواية "النمل" للفرنسي برنار فايبر على شهرة عالمية واسعة. وهي تروي قصة شاب يكشف لنا انطلاقا من قبو البيت الذي يقيم فيه خفايا عالم النمل العجيب بمستعمراته، ولغاته، ومدنه، ومراتبه، وطرق انتاجه، وعبيده، ومرتزقته، وأسلحته الفتاكة أيضا. واعتمادا على أبحاث عملية متطورة، كشف مقال &نشرته جريدة "التايمز" البريطانية في عددها الصادر &في السادس من فبراير 2009، أن النمل يتحدث مع بعضه البعض...
ويشير د. عبد الرحمان أيوب إلى أن اهتمامه بعالم النمل بدأ وهو طفل في جزيرة قرقنة ، وتواصل معه وهو شاب يدرس في العاصمة، ليلازمه وهو باحث يجول في العالم لإلقاء محاضرات في جامعات، وفي مراكز بحوث. وهو يعود إليه في سنوات التقاعد لأنه يساعده على فهم ما حدث &وما يحدث في عالمنا المعاصر. فالنمل الأحمر مثلا، وهو أشرس &أنواع النمل، وأشدها فتكا بالإنسان، وبخيرات الأرض قد يكون رمزا لقوى الاستعمار والامبرياليه التي تبيح لنفسها بسط هيمنتها على الشعوب الأخرى لتستمتع بخيراتها وثرواتها. كما يمكن أن يحيلنا النمل الأحمر إلى مخابرات ستالين الذي حكم بلاده بالحديد والنار، وإلى الزعيم الصيني ماوتسي تونغ الذي حرّض اعتمادا على "كتابه الأحمر" أنصاره &على قتل وتعذيب واهانة الملايين من الذين اعتبرهم "قوى الثورة المضادة". ويذكرنا النمل الأحمر أيضا بالخمير الحمر الذين أخلوا مدن كمبوديا من سكانها، وقادوهم إلى الأرياف ليقوموا بأعمال شاقة ومهينة وقاتلة. وفي عالم النمل بالنسبة للدكتور عبد الرحمان &أيوب ما يوحي بمغاور تورا بورا التي فر إليها &بن لادن وجماعته &عند غزو الجيش الأمريكي لأفغانستان في أواخر عام . وفيه ما يوحي أيضا بالأصوليين المتطرفين المتخفين أماكن مظلمة فيها يعدون أعمالهم الإجرامية والإرهابية، ثم يظهرون &في الفيديوات وهم مُقنعون للمفاخرة بها. وقد يُحيل عالم النمل إلى أولئك الذين ينساقون إلى تجار الدين، وفقهاء الظلام، فيطيعونهم طاعة عمياء، ويطبقون أوامرهم حتى ولو أدت بهم تلك الأوامر إلى التهلكة وبئس المصير. كما يحيلنا عالم النمل إلى أولئك الذين " يؤلهون كبيرَ حكامهم، رغم ما يجنونه من نكبات ومصائب"، ويجعلهم خدما اذلاء لمن "يسبح ليلا نهارا في الرذيلة وأصناف &الميسر، ومن اشتهر لسانه بأنه "يغزل" أخشن أنسجة النفاق والكذب والبهتان، ولا ينأى بنفسه عن سرقة عشاء الفقراء والمساكين".
&