*الى وليد خالد داود

اذا اشهرت "حبي" و"شغفي" و"هواي" بالطابوق: المادة الانشائية المبجلة، والاختراع الفطن الذي اهدته الحضارة الرافدينية للبشرية جمعاء؛ اذا قلت باني "مولع" بهذة المفردة الانشائية و"شغوف" بها، فهل يا ترى آتي بجديد وغير متوقع؟ - كلا، بالطبع! فكثر، كحالي، كما ازعم، يعربون عن اهتمامهم وشغفهم بهذه المادة. وهم اذ لم يعلنوا ذلك، فما هذا إلا لان احداً، ربما، لم يسألهم، او لن يمنحوا الفرصة المواتية للاعراب عن شعورهم تجاه هذه المادة او تلك. ثمة ناس كثر صادفتهم وتعرفت عليهم يبجلون هذه المادة ويعترفوا بولعهم بها، واذا تحدثت عن مهنيين (معماريين على وجه الخصوص)، فلا اذكر ان احداً تكلم عن الطابوق من دون ان يبدي إفتناناً به وميلاً اليه. وقد تكون بواعث ذلك الاهتمام راجعة، اساساً، بكونه مادة "طبيعية"، مأخوذة من التربة مباشرة، <التربة/ الارض>، التى لطالما عُدت "مسكننا" البدئي، و"مكاننا" الاولي، الواهبة "لرزقنا" الحياتي، ما يستولد نوع من صلة لعلاقة حميمية، تشي بارتباط عضوي متين ما بين الانسان و"منبته"/ بيئته، بحيث تسري خصائص ذلك الارتباط على تجليات تلك البيئة وتمثلاتها، بضمنها "الطابوق": مادة الارض ومنتجها الطبيعي!
لا نعرف على وجه التحديد (لا تشير المعلومات المتاحة الآن) الى اسم ذلك الانسان "الرافديني"، الذي قاده تفكيره النير الى جعل <اللبنة الطينية> تتحول الى <طابوقة>، من خلال حرقها بدرجات حرارة عالية، واكسابها صلادة مضافة. لكننا نعلم ان ثمة عقد (قوس)، مشغول بالطابوق المجفف باشعة الشمس تم انجازه في "اور" (جنوب العراق) قبل 4000 سنة تقريباً. ومع انه لم يتم الاحتفاظ بذلك "العقد الطابوقي"، بيد ان سجله التوثيقي المحفوظ اشار لاول مرة الى ظهوره والى وجود- مادة لاصقة هي "القير" تربط ما بين آسُفٌه (مداميكه) الطابوقية. ووفقا "للموسوعة البريطانية"، فان "اللبن المشوي بالشمس"ـ الذي استخدم لبناء <زقورة اور>، قد استبدل "بالطابوق" المفخور بعد 2500 سنة من انشائها (حوالي 1500 سنة قبل الميلاد).
انتشرت صناعة الطابوق من سهول بلاد الرافدين الرسوبية الى بلدان عديدة، وجرى استخدامه على نطاق واسع في نشاط بنائي بحضارات متنوعة. على ان اعمال تحسينات خصائص تلك المادة الانشائية "الفاتنة" ظلت تمثل على الدوام "هاجساً" تصميمياً لدى معماري بلاد الرافدين لجهة ايصال خواص تلك المادة نحو مستويات انشائية وجمالية ورمزية عالية. ولعل الاهتداء الى "الطابوق المزجج" ذي البريق المعدني، الملون، واستخدامه في معالجة سطوح الجدران، يعد حدثاً تصميما مميزاً في مسار العمارة العالمية. وتبدى ذلك في "تزيينات" اسطح جدران "شارع الموكب" وفي واجهات "بوابة عشتار" في بابل (575 ق.م.). وبهذا الحدث التصميمي الفريد وسع المعماريون العراقيون القدامى من آفاق استخدام الطابوق، مضيفين اضافات استثنائية الى البُنى المصممة، إن كانت لجهة المعالجات التكوينية ام لناحية تكريس القيمة الجمالية فيها.
بتوسيع استخدام الطابوق، على طول مدى التاريخ البشري، وتنوع اساليب توظيفاته من قبل حضارات مختلفة، قام بها معماريون عديدون شغفون به وبخصائصه الانشائية والجمالية، تكونت ذخيرة بنائية هامة وأُلفت تنويعات مدهشة لاساليب استخدامه، وإظهار تأثيراته التشكيلية التى لا تضارع في قيمتها الجمالية والانشائية معاً. ورغم تبدل المقاربات التصميمية، واختلاف التيارات المعمارية، وتغّير الذائقة الجمالية، فقد بقيت اعمال الطابوق تستهوي دوما انتباه المصممين الماهرين والفطنين. وليس من دون فائدة، (والشئ بالشئ يذكر!) استدعاء <النقاش> المتخيل الذي يسرده "المعلم": المعمار العالمي المعروف "لويس كان" (1901 – 1974) على طلابه. ففي حديث مفترض مع "الطابوق". يتساءل "كان" في تلك المحادثة عن <..ما يرغب ان يكونه الطابوق؟ فيجيب الاخير "بانه يتمنى ان يكون <عقداً/ قوساً>. عندها يقول "لويس كان" - حسنا، وانا اود ان تكون ذلك، بيد ان تنفيذ العقود يبدو، الآن، باهض الثمن، وانا لا اريد ان استخدم "عتبة" (أسكفة) Lintel خرسانية؛ فيجيبه الطابوق باصرار بانه يرغب ان يكون عقداً!> ومن هذه المحادثة الافتراضية، اراد المعمار العالمي الشهير، ان يبن لطلابه (ومتلقيه ايضا) محددات المادة الانشائية، والاهم امكاناتها، وطريقة استخدامها الامثل انطلاقاً من خصائصهاً. كما ان المشهد المعماري المعاصر يقدم اليوم "بانوراما" شاملة ولافتة في آن، لنماذج متعددة ومثيرة في استخدام الطابوق اشتغل عليها معماريو الحداثة... وما بعدها. احد تلك التصاميم ما اقترحه المكتب المعماري الالماني "بهيت بوندزيو لين" Behet Bondzio Lin Architekten، بمقترحه (الذي نفذ سنة 2017) لمقر رابطة النسيج والغزل في مونستير Munster (شمال غرب المانيا). كان من ضمن تحديدات التصميم، ان يعكس المشروع المقترح بوسيلة ما، ويشير الى "<الغزل والنسيج>، بكونهما اختصاص الرابطة.
انطوى تقديم المكتب المعماري في حله لاشكالية تصميم مبنى "مقر الرابطة"، على اختيار "بلوك" لكتلة هندسية منتظمة وبارتفاع ثلاثة طوابق، مغلقة من جوانبها الثلاثة بواسطة واجهات طابوقية، ومفتوحة من الجهة الرابعة/ الشمالية من خلال واجهة مزججة بالكامل. ولاجل ايجاد موقع المدخل الرئيس للمبنى، من دون ان يؤثر ذلك على خاصية القيمة "المصمتة" للواجهات، تم تغيير استقامة كتلة المبنى، وقطعها وتحريكها الى جانب Shifting بخفة متناهية، بحيث استمر الحفاظ على "انغلاقية" الواجهة، في الوقت الذي أُشير الى "مكان" المدخل.
بيد ان نزعة التبسيط العالية الموظفة في الصياغة التكوينية/ الحجمية للمبنى، تمت مقابلته من جهة آخرى (او بالاحرى "معارضته" Contrasted )، عبر اشكال معقدة جداً من اساليب رصف"مداميك" آجر الواجهات الثلاث. واعتبرت تلك الاشكال المشغولة من صفوف رصف الطابوق وتنويعاتها المختلفة بمثابة "الاضافة" الجوهرية والاستثنائية بقيمتها الابداعية في عمارة المبنى. اذ جاءت "رسوم" مساحات تلك الصفوف الطابوقية وكأنها قطعة من "نسيج" تتجعد وتتموج بحركات ديناميكية، مثلها مثل "قماش" يتموج اثناء تعرضه لهبوب ريح شديدة. وقد تم بلوغ هذا التشكيل الرفيع من اساليب رصف الطابوق، عبر اللجوء الى تباين مدروس في بروز انواع مختلفة (بلغ عددها ستة انواع) من ابعاد الطابوق واشكال ميله، المستخدم في تكسية واجهات المبنى الثلاث. لكن وضوح الفكرة التصميمية، و"بساطة" منطلقاتها الجمالية، اقتضى تحقيقها بالواقع وقتاً طويلاً، من خلال إجراء عمليات كثيرة لحسابات معقدة والاستعانة ببرامج كمبيوترية عديدة، بهدف بلوغ حل مرضٍ لهذه الاشكالية التصميمية. وتمكن فريق التصميم بعد مدة من التجريب والعمل المستمر في برنامج
كمبيوتري خاص الى تحديد مكان "كل" طابوقة في اسطح الواجهات الثلاث! وبالتالي، فنحن بالاخير ازاء "لوحات" تشكيلية مثيرة، وليس امام واجهات آجرية مالوفة، ما اضفى على عمارة مبنى "مقر الرابطة" قيمة جمالية مضافة عدت فريدة من نوعها ضمن بيئتها المبنية. وهذة "الاضافة" متأتية، اساساً، من اشتغالات فطنة وتأويلات مبدعة لمادة انشائية ، التي لطالما أٌعتبرت مادة عادية وحتى تقليدية! بيد ان الامر الاهم الذي اثار انتباه لجنة التحكيم (والذي افرز هذا التصميم ومنحه المرتبة الاولى من ضمن تصاميم اخرى كانت مشاركة في المسابقة المعمارية)، هو ان المصممين استطاعوا بعملهم الفريد ان يجسدوا بابداع لا نظير له، اختصاص ووظيفة المبنى المصمم، ملبين، بمهارة فائقة، احد اهم متطلبات المسابقة.
يذهب كثر من النقاد الذين كتبوا عن عمارة مبنى "مقر رابطة الغزل والنسيج" في مونستير، الى الاشارة الى منحوتة الموسيقار <بتهوفن> للنحات الالماني "ماكس كلينغر"(1857 -1920) Max Klinger، المحفوظة الآن في "متحف لايبزغ الفني" بكونها الحدث الفني الذي اوحي الى مثل تلك المعالجة الواجهية. ففي تلك المنحوتة يظهر الموسيقار الشهير جالسا وهو عارٍ، يلف سيقانه بوشاح يتراءى للزائر بانه خفيف جدا لثنياته المتعددة، لكنه في الحقيقة مشغول بمادة صلدة. وفي حينها اثارت هذه المنحوتة المشغولة سنة 1902 لغطا كثيرا، لجرأتها غير المألوفة في تقديم نادر للموسيقار المعروف، ما اكسبها شهرة واسعة. والى تلك الخاصية التى ميزت "وشاح" بيتوفن بثنياتها الخفيفة، وجد اولئك النقاد "مرجعية" رسوم التشكيلات الآجرية على واجهات مقر الرابطة. وقد يكون مثل هذا الربط بين العملين محتملا وحتى مقبولا؛ الا اننا نميل الى الاعتقاد بان جهد المعماريين الالمان المميز، الذين يمتلكون ارثاً مهما من الاشتغال على تنويعات استخدام الطابوق في منتجهم التصميمي، ربما كان الاقرب الى "ذاكرة" وتعاطف مصممي مقر الرابطة. ولعل اعمال المعمار الالماني الاكثر تأثيرا، "بيتر بهرنس" (1868 – 1940) الآجرية وخصوصا عمله التعبيري الآجري المشهور داخل المبنى الاداري والتقني لشركة "هوشت" Höchst AG (1920 -1924) في فرانكفورت، (الذي انشر صورته ايضا مع هذا المقال)، تبين بوضوح بكونه احد نماذج الاجتهاد التصميمي في التعاطي مع ثيمة الاعمال الطابوقية في العمارة الالمانية.
وقبل ان انهي كلمات عشقي و(هواي) بمادة الطابوق، احب ان انوه بان كلمة "طابوق" او "طابوقة"، غير موجودة في المعاجم العربية، ما يعني بانها كلمة غير عربية! وقد تكون ذات جذر فارسي او تركي، بحكم شيوع استخدامها بالعراق تحديدا، بخلاف بقية البلدان العربية، التى لا تعرف لفظة "الطابوقة" التي هي "الآجرة" او "القرميد" او "الطوب". ويفيدنا القاموس العربي- الفارسي، بان كلمة "آجرة" تعني بالفارسية: (خشت پخته، كه در زبان، القِرميْد، گويند)؛ اما معناها بالتركي وفقا للقاموس العربي – التركي فهي: (tuğla,kiremit). ولا يعطي كلا القاموسين معنىً لكلمة "طابوقة" او "طابوق"، مثلهما لا تعطي جميع المعاجم العربية تفسيرا لها، باعتبارها كلمة (غير عربية) او <كلمة شعبية: غير فصحى>. والسؤال، الذي يتعين طرحه، من اين اتت هذه الكلمة، المفتون بها شخصياً، واشعر بانتماء خاص لها اكثر بكثير من كلمة "آجرة" او "طوب" (والاخيرة كلمة عربية استعارها الاسبان ودعوها Adobe، ونشروها في اللغات الاوربية الاخرى، وتعني (وفقا لصاحب قاموس المورد): <لـَبِن، او طين يصنع منه اللبن>. وارى ان كلمة "آجرة" لا تعكس (في الاقل بالنسبة اليّ) مخزون المعنى الدلالي الذي يقترن بكلمة "الطابوق".
واياً يكن مصدر اشتقاق كلمة "طابوق" ومرجعيتها اللفظية، فان جزءًا من "هواي" للطابوق، باعثه طريقة لفظ هذه الكلمة ذات الاحرف "الصحيحة" المتجاورة، التى يشي لفظها الى صلادة معينة، بالوقت الذي تنطوي هي على هشاشة واضحة. ويضفي هذا التناقض الممتع، وابتعاد بعض حروف "العلة" في تلفظها، قيمة جمالية زائدة الى سمات تلك المادة الانشائية المحببة!
وبحبكم للطابوق: كلمة ومادة، ستنالون "أجراً" مضافاً، وستحصلون على إحساس جمالي ممتع وبهيج!
معمار واكاديمي

الصور:
1- لوحة طابوقية جدارية من بوابة عشتار في بابل (575 ق.م.).
2- جدار مبنى رابطة الغزل والنسيج في مونستير/ المانيا، منظر عام. (2017)
3- جدار مبنى رابطة الغزل والنسيج في مونستير/ المانيا، منظر عام. (2017)
4- منحوتة بيتهوفن، النحات : ماكس كلينغر، متحف لايزبغ الفني. 1902.
5- المبنى الاداري والتقني لشركة "هوشت"، المعمار: بيتر بهرنس، 1920 -1924. فراكفورت/ المانيا، منظور داخلي.