في رؤية شعرية قصيرة تشكل النص الأخير بديوانها :" نبيذ الموت" تربط الشاعرة نسرين كمال بين الكتابة والتاريخ، فهي ترى أن التاريخ " جسد مدفون في طين أسراره " ولذلك فهي تعيد تأمله، وتعيد ابتكاره وفق منظورها الشعري بالطبع، وهو منظور لا يسلّم بالضرورة بما حدث، أو تمت روايته وسرده على أنه التاريخ النهائي للإنسان والعالم، بل يتتبع الزمان ، ويؤسطره، ويحلم به، ويعيد إنتاجه على شكل نصوص شعرية راهنة.&
&& &نسرين كمال قدمت ذلك بنص بعنوان:" النص" هكذا ب (ال) التعريف، وجاءت به كخاتمة لديوانها لتؤكد على يقينيته الدلالية، وعلى كونه مسك الختام الجمالي الذي تصل إليه نصوصها في ديوانها :" نبيذ الموت" الصادرعن :" دار الولاء لصناعة النشر، بيروت، الطبعة الأولى 2018 " . فيما تعزز هذه الرؤية في :" النص" بنص آخر هو:" لغة" ( ص.ص 65-67) الذي تومئ فيه إلى الحروف، وإلى المعاني الموغلة في داخلنا حين نعبّر باللغة، أو تعبّر هي عنا، حين تلتصق بالجسد والروح معا، كأنها دم سار بجسد:&
أيتها اللغة&
تمشين في الشرايين كضوء وظلمة
تمشين ما وراء الموت في أجسادنا
التي تحملك في يقظتها النائمة
أيتها الدماءُ المودعةُ بنا
كيف نلد الأطفال؟&
إن اللغة الشعرية ، على اليقين، هي مقصد الشاعرة، فاللغة تتسلل في الما وراء، قدر ما تتسلل إلى الداخل، وإلى وعي الشاعرة، حيث تثير كوامن السؤال الشعري، وتحفزه على إبداعية أعمق.&
وفي رؤيتنا للبحث عن إشارات أخرى تعزز هذه العلاقة عبر النصوص ، نرى أن الديوان &الواقع في (96) صفحة، يتشكل من (34) نصًّا، استهلته الشاعرة بنص بعنوان:" انتظار جودو" يبدأ هكذا:
كانوا ينتظرون بفارغ الصبر عودة المسافر
لم يروا صورته يوما
سوى في قصاصات أحلام مشوشة
لم يسمعوا عنه
سوى ما أخبره لهم الطاعنون في الانتظار
والهذيان
كانت وجوههم مطوية
وجلة&
تليقُ بأنفاسه المقدسة
التي تهرول خلفها الجبال / ص . 7-8&

البدء بالإشارة إلى عمل صمويل بيكيت المعروف، يضعنا في قلب استدعاءين ، الأول: تاريخي ، ربما بالإشارة إلى المرحلة التي كتبت فيها مسرحية:" في انتظار جودو" ما بين تأليفها العام 1948 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وعرضها لأول مرة في العام 1953 &وهي مرحلة عصيبة زمنيا ، جاءت على آثار نهاية الحرب والتدمير الذي أحدثته في أغلب دول العالم الكبرى والصغرى على السواء ، والثاني : الاسترجاع أو الاستشراف التناصي لعمل أدبي عالمي تحول عنوانه إلى مثل يلخص حالة الانتظار، والبحث عما لا يجيئ ، سواء البحث عن المعرفة، أو عن الشيء المحجوب، أو عن المأساوي أو المبهج، فيما تلخصه حوارات المسرحية بين شخصيتين هما: فلاديميير واستراجون، وهما ينتظران جودو الذي لا يأتي، فيما يرتقبان القمر البعيد، بحسب ما استلهمه بيكيت من لوحة كاسبر دافيد فريدريش «رجل وامرأة يرقبان القمر». (رُسمت في الفترة ما بين 1830 – 1835 ( .
جودو الذي لا يأتي رغم انتظاره، أو في انتظار ما لا يجيء، أو تكرار حالة الانتظار والارتقاب والضجر من الأشياء، تحولت رؤية شخصيته إلى انتظار ربما حدث أو لم يحدث. إلى رؤية سوريالية عبثية، وهي تشيرُ إلى واقعنا الذي من كثرة ركضه وتسارعه أصبح ينتظر بلا انتظار، جودو هو الشخصية الأشهر التي تشكل هذا الانتظار وهو انتظار يميتُ الزمن، ولا يقتل اللحظة فحسب. فيما يجعل الأشياء عادية تماما بفعل الضجر المتكرر. حتى إن المسرحية نفسها تختتم ب" &نحن حزينان، نحن سعيدان، فماذا نفعل الآن" ... ننتظر جودو" .
&& &حيث تستلهم الشاعرة هذه النهاية أيضا في نهاية نصها:
الليلُ يتمطى
قطعة من نعاس أزليّ
وهم قد ملوا المسافر
لكنهم لا يزالون
يتكومون
في زوايا الانتظار القاتم.&
&& &هي رؤية غائمة، وانتظار من أجل الانتظار، تزجية عبثية لوقت عبثي ، &لمجهول لا يأتي ، هكذا يمكن أن تفتح الشاعرة الدلالة الأولى لنصها، ومن ثم لديوانها، الذي يسرى في مدارج الغياب، وقراءة الأعمق والأبعد وللحياة الداخلية ، ولحركة الوعي وتمثلاته.&
&& &إن المشهد النصي يسري في إيماءات انتظار متتابع، كأنه يقدم رعب الانتظار ورعب السؤال الدائم الذي لا تستطيع الكلمات أن تخفيه وتقنّعه .&
&& &وتأتي نصوص &: ( &المنتحرون، العطش، عشتار، رقص فوق الجليد، نار جليدية ) &تمثيلا لتقلب حقائق العلاقات السياقية الشعرية المعهودة، فثمة تأمل، واستشفاف للعمق، وإقامة علاقات جديدة من سياقات مختلفة متميزة، تلعب فيها الشاعرة دور الصانع الشعري الذي يقتطف علاقاته التصويرية من مكونات متباعدة.&

لعبة الثنائيات :&
تمضي الشاعرة نسرين كمال في صياغة أفقها العباري بالديوان عبر نصوصه المتنوعة، من خلال استشفاف الدلالات بعبارات قصيرة مكثفة، فالنصوص تنبني في جوهرها على تجاور جملة من المشاهد الشعرية المكثفة التي قد تتشكل مقاطعها من سطرين إلى خمسة أو سبعة أسطر، ولذا فإن الأداء التعبيري الذي يحتفي بالوجازة والقصر والكثافة وكتابة الحذف هو ما تحبذه الشاعرة في إنتاج دلالتها النصية بالديوان.&
&& &هي تتحدث عن الزمن، والجسد، واللغة، والمكان على الأغلب، لكن هذا الحديث الشعري يتأدى بصورة كثيفة متكاملة حين تبرز إحدى آليات التعبير الشعري لديها وهي آلية : الثنائيات، فثمة ثنائيات تتواتر بالديوان عبر النصوص المختلفة مثل: الوضوح والغموض، الوجود والعدم، النار والجليد، الذبول والربيع، البحر والتراب، النور والظلام، الحضور والغياب، النقصان والاكتمال، الجسد والروح، الصوت والصمت ، ولا تكتفي الشاعرة ، بالثنائيات اللفظية في تأملها لهذه الثنائيات، ولكنها تمتد إلى عمق التاريخ واللحظة الراهنة، بداية آدم وحواء والإنسان المعاصر حيث الحضارة والتطور، ومن الإلهي إلى الأرضين فيما تبتكر ثنائياتها المؤسطرة باستدعاء أسطورتي: عشتار وإينونيت ( إنانا) آلهة الحب والجمال لدى السومريين.&
&& &في هذه الثنائيات تنبثق حالات حوارية شعرية متجددة متوترة معا، كما نشهد ذلك في نصوص: نار جليدية، حيث " النار تنمو في الجليد" ، و" أنبياء" و" المدينة" &و" النار" و" النسغ" و" ثنائيات" &تمثيلا.&
&& &
شعرية العناصر:&
ومن الآليات التي تتجلى بديوان نسرين كمال توارد العناصر الكونية التي شكلتها الرؤى الفلسفية المتمثلة في: الماء، والنار، والهواء والتراب، فالشاعرة تركز على استقطار هذه العناصر شعريا في عدة نصوص مثل: العطش، الحضارة، ذيول نبتة مقطوعة، نار جليدية، ورد مقدس، وتتضامن هذه الرؤية كذلك مع استشفاف دلالات الطبيعة من أشجار وزهور، وحقول وفصول خضراء وبحار وأنهار ، فيما يطل توظيف البعد الأسطوري في استدعاء عشتار وإنانا.&
&& &إن هذه الحقول المعجمية توسع من سياقات النصوص ، وتصنع صورا ومشاهد مترامية الأطراف دلاليا على الرغم من قصر النصوص وكثافتها، إلا أن إيراد هذه العناصر، وإيراد مفردات الطبيعة، والتوظيف التناصي للأسطورة يصنع حالات شعرية خصبة وثرية الدلالة ومفتوحة على التأويل .&

بيروت/ المدينة&
تستحضر الشاعرة بيروت ، كأغلب الدواوين الصادرة مؤخرا في لبنان، حيث البحث عن الأمكنة الضائعة في أزمنة راكضة متسارعة، حيث كانت بيروت ملهمة الفن والشعر في الضمير الأدبي لمراحل زاهية . ربما ككل المدن العربية الكبرى التي كان لها حضورها المشرق في الأدب العربي شعرا ونثرا. فهل مازالت بيروت " خيمتنا ونجمتنا" بالتعبير الشعري الدرويشي؟&
الشاعرة تومئ إلى بيروت بالإشارة إلى المدينة، وتومئ لها باستدعاء عشتار، وفي نص :" العطش" وفيه:&
مازالت عشتار&
نصفها غائم
ونصفها عائم
امرأة الجحيم لن تنقذ الصياد&
إلا كي يعود لموته وتعود لدورانها المقفل
مازالوا يقدمون النذور&
لأقدامها المخضبة
عشتار
وجهها فوق الغيوم البعيدة
ينوء بالشحوب والعطش/ ص 13&
تقديم النذور ، وتقديم الكلمات المبجلة قد لا ينفع الأمكنة الرائعة، ولا يجدي مع / عشتار/ بيروت، فيما تومئ الشاعرة، ولن يغير وجهها الشاحب .&
كما تحضر في نص بعنوان :" عشتار" يتم فيه الربط بين عشتار وبيروت، وتتجلى المدينة بشكل مباشر في نص:" بيروت" حيث يتخذ النص شكله الوصفي الراصد الذي يصف مدينة بيروت في نومها وصحوها، وفي ثوبها القديم والجديد المطرز بالحديد والنسيان القاتم، فيما تظل الشاعرة تبحث عن ذاتها حتى في الوجوه بذاكرة مفقودة، إلى أن تصل إلى آخر النص:&
بيروت
طفلة لم تولد إلا مجازا
ورماها الشعرُ في فم البحر
لكننا لم نجدها بعد / ص.ص 37-38&
تحضر بيروت الصورة لا بيروت المكان اليوم، كأنه نوع من " رثاء المدن" لا بسقوطها أو اندثارها، ولكن بغيابها الطوباوي الذي كانت تصوره الروايات والقصص والقصائد حتى فترة قريبة. وهذا هو حال بيروت اليوم، تعاني من الشحوب والفقدان والضياع والغياب فيما تصور الشاعرة. && &
إن ثمة شعورا باللا جدوى ، والفقد، بدءا من انتظار جودو العبثي حتى نص " النص " الذي يولد وينبثق من الدماء ، على حد تعبير &الشاعرة، وهو ما يجعلها تشير بعض الإشارات في نصوص الديوان إلى ذلك حيث:
تكتب دون لغة
وتسرّ دون صوت
تمد يديها كي تلوح لنا
فلا نلتفت
كل شيء هنا
لكننا
نركض لاهثين إلى " هناك" . / ص 64&
فيما تعبّر كذلك:&

لا أحد ينادي أحدا
الصمتُ يجلو جسورًا&
تكدس فيها الكلام&
يكفي أن تشبهني الفكرة
أن أنفض عني الخاتمة الكبرى&
أن أراقص سطوة الخفوت . / ص85&
أتصور أن هذه الإيماءات تشكل جوهر الرؤية الشعرية لدى نسرين كمال في هذا الديوان، حيث التأمل الكثيف، وتواتر الأسئلة، والحوار الداخلي :" في الحياة الداخلية لا ممرات شفافة للخارج الأعمى " / ص 10 / &أو في قولها:&
تدثّر
في تشردك العاقل
ورقصك الباطنيّ
ولنسكن
وردة المنفى . / ص 83&

إن حركة الوعي التي تلوذ بالهواجس والأحلام والرؤى وربما الهذيان والرؤى الكابوسية ، تتمظهر بشكل بارز لدى الشاعرة حيث تجسد اللغة الشعرية هذه الدلالات وتصوغها بتأمل يصبو إلى نمذجة أماكن متخيلة تتواتر بين دالتين مهمتين هما: الطبيعة والتاريخ. هكذا تقودنا قسمات ديوان :" نبيذ الموت" وهو يشهر نصه الأخير " النص" حيالنا بكل نزقه وأسئلته واستشرافاته.&
&