مثال أي شابة صغيرة كانت دائمة التفكير بعريسها الذي تنتظر قدومه راكباً حصانه الأبيض، إلا أن أحلام ابنة السادسة عشر ربيعاً، لم تتوقع يوماً أن يكون ذاك العريس يكبرها ضعف عمرها. حاولت مراراً أن تستوعب هذه الإشكالية، ورضيت بالنصيب الذي لم يكن مرسوماً، ولكن موافقتها ربطتها في الخروج من العالم المكبوت وعيشها في مدينة يلفّها الغموض والغرابة، ناهيك بالأسرة التي تعيش في تلك المدينة ببساطة وطيبة، ورضا بالمقسوم.

كان العريس ضابطاً في الجيش، يؤدي وظيفته العسكرية بالتزام مطلق، واختياره تلك الزوجة طواعية وبرغبة شديدة وعن قناعة، وهو ما زال في بداية شق طريقه في الحياة العملية، ففضل الارتباط بها لا سيما أنّه كان محافظاً ومنطوياً على نفسه، وما دفع بها إلى القبول به عريساً؛ هدوءه واتزانه، وكان دائماً يُفكر بضرورة إطلاق المرأة يدها في كل شيء، وإفساح مجال للحرية التي كانت تحلم بها، واختيارها ما يليق بها من ملابس بعناية بعيداً عن امتثالها لتعليمات وتوجيهات خطيبها زوج المستقبل الذي رضيت به، وهرباً من واقع مزرٍ كانت تعيشه، وتنتظر الساعة للخلاص منه، والخوف من ارتباطها بإنسان كل ما يهمّه هو أن تظل رهينة محبسه، ومنغلقة على نفسها. أي أن تظل خاضعة لإرادته وتوجيهاته في كل شيء، وحتى في اختيار ملابسها وتغيير برنامج ما سبق أن رسمته في حياتها، وعاشته منذ طفولتها إلى أن أصبحت شابة، بانتظار الارتباط بزوج يُسعدها ويخفّف عنها معاناتها، على أن تكون على قناعة به.

تَجسّد الحلم إلى واقع وأصبح حقيقة، وفرحت بذاك الضابط الذي أصبحت زوجة له، وبتلك الأساور الذهبية التي تزيّن معصميها، وبتلك النضارة والفرحة التي جمعتها بذلك الإنسان الذي أكثر ما يهمّه الانضباط والجدية في حياته الزوجية وخارجها.

بدأت العلاقة تأخذ مساراً آخر، وخاصة بعد أن تحوّل الحلم إلى حقيقة، فرحة بعريسها وهانئة به والذي سينقلها، كما تتأمّل، من أحضان والديها وبيتها القديم، وتلك الحارات والشوارع المعتمة الضيّقة إلى مدينة كبيرة وأضوائها التي لا تنطفئ. مدينة تتمنى كل فتاة الانتقال والعيش فيها.

تحققت أحلام سعاد.. وها هي الآن في طريقها إلى دمشق تاركة مدينتها الأم للعيش في مدينة كبيرة، وسنها الصغير يُلجئها في كثير من الحالات التي تقوم بها أمام زوجها بالخجل من نفسها، ما يستدعي منها الوقوف عليها علها أن تخفف عنه معاناته.

إقرأ أيضاً: "السِلْفُ" وأحاديثه الساخنة!

مضت الأيام سريعاً، وفرحت العروس الصغيرة الجميلة بعريسها، واستمرا مع بعضهما البعض سنوات، ونتج عن تلك العلاقة الزوجية خمسة أطفال، منهما عروستان جميلتان، وثلاث صبية ذكور، إلّا أنّ تلك الزوجة الصغيرة لم تخلُ حياتها من المنغصات الكثيرة التي واجهتها تحت ضغوطات الزوج المتشدّد، في توجيهاته وقراراته الحازمة وأوامره العسكرية، فضلاً عن معاملته القاسية، وهي أشبه بعسكري مجنّد يُخدّمه ويقوم على تلبية طلباته، ويلتزم بتوجيهاته، والعمل مرغماً على إطاعته، وفي عودته إلى البيت بعد كل يوم، وعلى ضوء واقع الخدمة العسكرية، وما يتطلب منه في أدائه، تظل الزوجة المسكينة خاضعة لرغباته وما يأمر به، ومعاملته التي لم تكن تعرف أنها قاسية وشديدة إلى هذا الحد، ورغم ذلك رضيت بالمقسوم، إلّا أنها كانت تُحبّه وتتودد له باستمرار، وتهتم به وإطاعة أوامره!. في إحدى المرات طلب منها القيام بتحضير وجبة طعام يُحبها وبذلت قصارى جهدها لتهيئتها والإسراع في تقديمها له، مستعملة في ذلك طنجرة الضغط، لا سيما أنها تكره، وبشدّة، رائحة الطعام والبخار المنبعث من أي طبخة كانت ما يجعلها تلجأ إلى فتح نوافذ الشقّة جميعها للتخلص من رائحة الطعام، وأكثر ما يثيرها في فصل الشتاء، خاصة وأن النوافذ تكون مغلقة بشكل محكم بسبب البرد الشديد، وبعد أن حضّرت كل ما لديها لأجل إنجاح هذه الوجبة التي وفّرت لها كل مقوّمات النجاح لتقدمها إلى زوجها الذي ينتظر الانتهاء من وجبة محاشي ورق العنب والباذنجان والكوسا، وفوجئت بعد فتح غطاء الطنجرة أنَّ الطبخة، بالكاد أن تُسمى طبخة. إنها مجبولة مع بعضها البعض، وكأنها كتلة من الطين، لا يمكن لأي كان أن يكتشف ما في داخل هذه الطنجرة، ولم يكن بالإمكان أن تتجرأ وتقدم لزوجها ما خلصت إليه، لا يمكن بأي شكل تقديم تلك الوجبة إلى زوجها، وإن فعلت فإنه سيلجأ إلى قذفها من إحدى نوافذ المطبخ على أرض الشارع. ومن حسن حظها أنها لجأت إلى جارتها في الطابق الثاني، وهي ست محترمة وطالما تساعدها في الوقوع في هكذا مآزق. امرأة أكبر منها سناً، وشرحت لها مشكلتها، ومن حسن المصادفة أن جارتها كانت تقوم بتحضير الطبخة ذاتها، فأسعفتها بتجاوز محنتها بإعطائها صحن من المحاشي مع المرق، وتقديمه لزوجها على أنه من صنع يديها.

كثيرة هي المشكلات التي واجهتها وطالما تلتزم الصمت خوفاً من هيجانه تجاهها ولجوئه إلى تصرف لا يُحمد عقباه.

إقرأ أيضاً: العجيلي... أيقونة فراتية خالدة

وفي مرات كثيرة، في أثناء زيارته وإياها إلى بيت صديق، أو الذهاب إلى السوق للتسوق تراه يضطر للمشي خلفها، يراقب عيون الناس الذين ينظرون إليها . وهذا الذي يقوم به بسبب الجمال الذي تختزنه، والنضارة التي تتحلى بها، وطالما كان يواجه مشاكسات مع ناس يمشون في الشارع، ويظن الكثير من أصدقائه أنها ابنته، وليست شريكة حياته.

عانت سعاد الكثير من تصرفات زوجها، لا سيما أنها في سنّ صغيرة أعاد حسابات كل ذلك من جديد، إلا أن مشيئة القدر كانت أقوى من الجميع.. فجاء الخلاص بارتباطه بزوجة ثانية، لتخفيف الضغط عنها نتيجة انشغاله طوال الوقت بزوجته الجديدة، ولم تمض سنة أو اثنان من فترة زواجه إلا وتخلف عن الركب، ووافاه الأجل المحتوم، وسافرت مع أبنائها إلى إحدى دول الخليج للعيش فيها بعيداً عن دمشق بعد أن قضت فيها أجمل أيامها. استقر بها المقام في الكويت، وعلى الرغم من غياب الزوج ما زالت تذكر تلك الأيام القاسية وتحن إليها، ولا يغيب عن ذاكرتها بالمطلق معاملة زوجها العسكرية الصارمة، والالتزام بتعليماته وأوامره التي ظلت تشكل عبئاً ثقيلاً وخوفاً يصاحبها أينما حلت، وهي الإنسانة التي لا يستدعي منه أن يكون تعامله معها بكل هذه القساوة، خاصة أنها تتميز بهدوء مفرط، وثقة بالنفس، فضلاً عن الأناقة وبالبساطة والرقّة، والنبل الذي يشكل جزءاً كبيراً من شخصيتها.