بعد أعوامٍ عديدة من التهديدِ والوعيدِ الإيرانيِّ بمحو إسرائيل وإزالتها من الوجودِ والخريطةِ الجغرافيَّةِ العالميَّة، وتمادي تل أبيب وبلوغها المدى في الاستفزازات التي لا تُخطئها عينٌ لطهران، حتى وصل الأمر حدَّ استهداف واغتيالات ما يقرب من 11 قائدًا ومستشارًا عسكريًا إيرانيًا، وذلك منذ أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي وحتى اليوم، وختامًا بتوجيه ضربة لقنصليتها في دمشق، والتي أسفرت عن مقتل سبعة، بينهم ثلاثة من كبار قادتها، كان الرد الفارسي الذي طال أمد انتظاره وهلَّل له أتباع إيران وأذرعها بمجرد إعلان الجمهوريَّة الإسلاميَّة عنه؛ هو عرضٌ عسكريٌّ على الهواء مباشرةً بالطائرات المسيَّرة والصواريخ الباليستيَّة في طريقه لإسرائيل، دون أن يُسفر عن إصاباتٍ بشريَّة، اللهم إلَّا اشتعال منشآت عسكريَّة ربما تم إخلاؤها مسبقًا.

وبالرغم من تشدق إيران بالردِّ المناسب على إسرائيل، فإنها - كعادتها - ملأت الدنيا ضجيجًا لكنه كان بلا طحين كما يقول المثل الشعبي؛ فعلى أرض الواقع لم نستشعر بوادر حربٍ، أو نشهد استهدافًا مماثلًا، أو نسمع عن تدمير بنايات وسقوط ضحايا، بل انتهت فصولها الدراميَّة بأضواءٍ في السماءِ لمسيَّرات تقع في مصيدة الدفاعات "الإسرائيليَّة – الأمريكيَّة – البريطانيَّة" كما الفئران، ومرَّت الساعات الخمس؛ هي مدة إطلاقها، دون أيِّ خطورةٍ تُذكر على الدولة العبريَّة أو شعبها.

استهداف مصالح طهران في سوريا ولبنان واغتيال قادة الحرس الثوري التابعين لها فيها، خدش حياءها وكبرياءها عالميًا، وباتت في موقفٍ لا تُحسد عليه ولا يتكافأ مع الفزَّاعة التي رسمتها لنفسها بأنها قوة كبرى تمتلك ترسانةً صاروخيَّةً تُعدُّ الأكثر تطورًا في المنطقة، والتي حصلت عليها من حلفائها في المعسكر الشرقي، إلى جانب تفوقها في صناعة المسيَّرات التي قطعت فيها شوطًا كبيرًا وأصبحت تُزوِّد بها دولًا كبرى، جعلها مُضطرةً إلى تبييض صورتها وإن كلَّفها الأمر مصافحة أعدائها في الخفاء، وتقليم أظافرهم شكلًا في العلن.

وها هي الأجواء تعود للهدوء بين المتخاصمين، بعدما اكتفت إيران بهذا السيناريو الضعيف الذي أحدث صخبًا دوليًا لا يستحقه، فقد انفضَّت الحربُ الوهميَّة التي لم تبدأ من الأساس، بينما لسان حال المُتحمسِّين والمتعاطفين مع إيران يقول "ليتها ما ردَّت"، لنجد حسابات على منصات السوشيال ميديا لطالما سبَّحت بحمد إيران ورأت فيها الخلاص لمعاناة دول المنطقة مع إسرائيل، تُطلق "النكات" وتُشبِّه الصواريخ الباليستيَّة الإيرانيَّة التي صوَّبتها نحوها بالبلاستيكيَّة، وتصف طائراتها المُسيَّرة إليها بالكارتونيَّة.

نعم؛ انكبت شاشات التلفاز في العالم أجمع على التغطيات الإعلاميَّة الواسعة لمُجريات الأحداث في المنطقة خلال الأيام الماضية، وامتلأت شرائط الأخبار بالأنباء و"العواجل"؛ كما اتخذت بعض الدول إجراءات استثنائيَّة سواء بمجالها الجوي أو إعلانها حالة التأهب والاستنفار، إذ لا حديث يعلو عن الهجوم الإيرانيِّ على إسرائيل، وفي ظنِّي أن هذا ناتجٌ عن إجادة إيران أساليب الحرب النَّفسيَّة وتهويل الأمور وتضخيمها، حتى كان ما رأينا وانتهى في لمح البصر، فالوقت الذي استغرقته الحربُ المزعومة لا يُساوي شيئًا في عُمر الحروب، لتكون أقصر صراعٍ عسكريٍّ من حيث الوقت، والأقل من حيث الأضرار، فالصراعات الحقيقية بين الدول قد تمتد لشهورٍ وربما لسنواتٍ وعقود.

من وجهة نظري أن ما حدث ليل الخميس وما تلاه فجر الأحد أشبه بتمثيلية مُتواضعة السيناريو والإخراج، فقد عرفنا صغارًا ودرسنا في المناهج العلميَّة أن أهم عناصر النجاح لأيِّ حربٍ السريَّة والمفاجأة والمُباغتة، وهو ما افتقرت إليه العمليَّة الإيرانيَّة تمامًا، بل كانت التوقعات ملء السمع والبصر منذ قصف القنصلية الإيرانيَّة في محيط العاصمة السوريَّة دمشق، ورد الفعلِ الإيرانيِّ كان أيضًا معلومًا لدى أجهزة المعلومات الأميركيَّة والإسرائيليَّة على السواء، ولكن محور الخلاف كان فقط على التوقيت.

الطريف أنه قبل إعلان التليفزيون الإيراني بدء الهجوم رسميًا على تل أبيب، أو إصدار الحرس الثوري ووزير دفاع إيران وكبار القادة فيها بيانات تؤكد مُصداقيته، كانت واشنطن قد أبلغت حليفتها إسرائيل بكلِّ شيء، وأخذت إسرائيل استعداداتها وفعَّلت أنظمة الدفاعات الجويَّة لديها بالتوازي مع إجراءات أميركا وبريطانيا وفرنسا المُساندة لها، ونجحت في إسقاط كامل الطائرات المسيَّرة وصواريخ كروز وأرض أرض التي أطلقتها طهران، والتي وصل عددها إلى المئات.

إقرأ أيضاً: حماس وإسرائيل.. سيف الدهاء وخنجر الغباء

أسئلة عديدة تتبادر إلى الأذهان في الوقت الراهن، أبرزها على الساحة: هل حقَّقت إيران شيئًا من تلك العمليَّة التي لولا الدعاية الإعلاميَّة ما شعر بها أحدٌ؟! والإجابة من واقع رؤيتي وتحليلي المتواضع هي أن الطرفين – إسرائيل وإيران - استفادتا من هذه الحرب، فقد حافظت طهران على ماء وجهها، ووجَّهت لأول مرة طائرات وصواريخ إلى إسرائيل حتى وإن لم تصل وتُحقِّق الهدف المرجو منها، ولكنها اتخذت الخطوة التي تأخَّرت كثيرًا وطالب بها الرأي العام الداخلي في الجمهوريَّة الإسلاميَّة، وبالتالي رفعت أسهم النظام الإيراني والمرشد الأعلى لدى الشعب الإيراني الذي يرى أنه اتخذ القرار الأجرأ والذي تجنَّبته كل الأنظمة المُتعاقبة على طهران.

وبالنسبة إلى إسرائيل، فاعتقادي أن هذه الحرب - إن اتفقنا على تسميتها هكذا مجازًا - فقد رسَّخت أقدام نتنياهو الذي يُواجه حملة شرسة في الداخل الإسرائيلي الذي يُطالبه بصفقةٍ لتبادل الأسرى وإجراء انتخابات مبكّرة قد تُطيح به وبحكومته بعد فشلهم في تحقيق أيِّ نتائج إيجابيَّة في الحرب على غزَّة التي قاربت على المائتي يومٍ؛ بالقضاء على حماس وعناصرها، أو استرداد أسير واحد بالقوة -كما روَّجوا لمواطنيهم-، بل إن المعطيات تُشير إلى انسحاب جيشهم في نهاية الأمر خالي الوفاض من غزَّة منقوصًا بالمئات ممن سقطوا في القطاعِ بين قتيلٍ وجريح، فنتنياهو أكبر الساعين لفتح جبهات أخرى للحربِ؛ لأنه يُدرك أنه في اليوم التالي لها سيُزج به إلى غياهب السجون.

إقرأ أيضاً: تفجير موسكو... لماذا يصر القيصر على توسيع دائرة الاتهام؟

بإمكاني القول إنَّ خلاصة ما حدث هي لا شيء، فإيران اكتفت بما فعلت ولا تسعى إلى الدخول في حربٍ شاملة مع إسرائيل؛ لكونها تُريد استكمال برنامجها النووي والوصول إلى حلم إنتاج قنبلة ذريَّة، وخوفًا من تعرُّضها لضغوطٍ اقتصاديَّة أو سياسيَّة أخرى لا يتحمَّلها وضعها المُتعثِّر حاليًا، ناهيك عن أن طهران تُدرك أنه لن يكون بمقدورها مواجهة إسرائيل ومن خلفها أميركا التي ما زالت تتربع على قمة العالم سياسيًا وعسكريًا، والحالة الوحيدة التي تضطر فيها إيران إلى الدخول إلى هذا المنعطف الخطير، هي تعرض أراضيها لتهديد مباشر لن تقف أمامه مكتوفة الأيدي بطبيعة الحال.

ختامًا.. أستبعد أن تقوم إسرائيل بالردِّ على هذه العمليَّة؛ لأنها لن تجد دعمًا أميركيًا أو من باقي الحلفاء بشكلٍ مباشر، لدواعٍ أخرى لا داعي للخوض في تفاصيلها هنا، ولكن يبقى الحلم الإسرائيلي قائمًا بالقضاء على أذرع إيران وتطهير المنطقة منها والتخلص من خطرهم، ومن ثمَّ التفرغ للقضاء على حلمها في صنع قنبلة ذريَّة وحرمانها من الوصول إليها، إلى جانب كبح جماح تمدُّدها في المنطقة وتفتيت قدرتها العسكريَّة كلما طالت مخالبها وشكَّلت خطرًا على مصالحها ومصالح حلفائها.