يلجأ البعض إلى مدح أشياء وأماكن، أو أشخاص ليسوا في أماكنهم الطبيعية، أو حتى في مواقعهم، وهذا ما قرأته منذ أيام في صفحة أحد الأصدقاء المتيّمين العاشقين لمدينته الرّقة، وطالما ينثر الورود في كل شارع من شوارعها، وفي كل حي ودرب وحارة فيها، ويعود به الحنين إلى ديار ـ كما يظن ـ أنها كانت ترتع بالخيرات، وتتغنى بها، وكانت تؤمّن له حياة كريمة، ودخل مادي جيد، وتوافر في الخدمات المثلى سواء أكانت في إطار الكهرباء، أو في الرغيف، والماء والاتصالات والنقل الداخلي.

الرّقة ظلت مجرد مدينة منسية يعيش فيها المهمّشون الذي يقتاتون من عرق جبينهم، وبجهد فردي يقومون فيه، ومنهم من يعتمد على الزراعة، أو تربية الماشية، كمورد أساسي وبالكاد تلتقي موظف عامل في الدولة، وإن التقيته فإنه بالتأكيد تراه مستفيداً من عمله الوظيفي، وهو يعيش في بحبوحة، وليس بحاجة إلى أحد.. وما بين يديه بالكاد ما يكفي لسد حاجته وأسرته، ومنهم من استمر في عمله الوظيفي سنوات وسنوات، واستطاع أن ينأى بنفسه عن الجميع، وفرصته ملء جيوبه المثخنة بالحاجة والفقر من تلك الأموال السائبة!

ولمجرد تذكير أمثال هؤلاء بمدينتهم، فإنهم ظلّوا يُفاخرون ويعتزونّ بها وكأنها قطعة من الجنّة، أو هي أشبه بمدن النعيم، وهذا من حقهم الطبيعي، وكأن الرّقة المدينة الوحيدة في العالم التي لا يمكن المساس بها، أو ذكرها بشيء يسيء إليها!

فلماذا الرّقة بالذات؟ وماذا تعني؟ وهل تستحق منا كل هذا التفاخر والمديح والتباهي بها من قبل أبنائها الذين هجروها وركبوا البحر، مرغمين من فواجع الموت التي تتربص بهم في كل مكان، ومنهم من غادرها براً متحمّلاً الكثير من الصعاب، وأنفق لقاء ذلك أموالاً باهظة؟

لا شك في أن كلاً يُحب حسب رغبته، وكيف ما اشتهى. ولكن أسأل: ماذا وجدنا في الرّقة حتى يظن البعض أنها المدينة الوحيدة في العالم التي تستحق منا كل هذا الحب، وهذا الإطناب في المدح؟ هل نتوق بالفعل إلى شوارعها، وأحيائها، وأبنيتها، وأسواقها، وما فيها من عثرات ولعنات سبق أن أصابتها في الصميم!

أم نتوق إلى شوارعها الموحلة، أم إلى العجاج الذي يزورها بين فينة وأخرى، ويعمي العيون والقلوب، ويلغي كل علاقة بين طرفين متحابين، ويدمي كل رغبة في الحياة!

ما نقوله فيها ليس مبالغاً فيه. فما هو الأثر الكبير الذي تركته الرّقة في عقول وأذهان أبنائها - أقصد - هؤلاء الذين ولدوا وعاشوا فيها حتى تفيض قريحتهم شكراً وعرفاناً بالجميل لها؟

الرّقة مثلها مثل أي مكان آخر في الدنيا، وتكاد تكون أدنى من غيرها في مناحٍ كثيرة، فلماذا يلجأ كثيرون إلى المديح والتغني بها، وكأنها منارة الدنيا، أو أنها المنقذ بالنسبة لكثيرين ممن أصابهم من آلام وأوجاع، وهاهم اليوم يعيشون المعاناة بكل مؤسياتها؟

هناك الكثير ممن تركوها، وها هم اليوم يعيشون في مدن سورية، وفي قرى قريبة منها، ومنذ سنوات، ومنهم من يعيشون في دول عربية وأوروبية، وفي الولايات المتحدة، وكندا واستمروا ونسوا الرّقة وكل ما يربطهم بها، ولم يعد يتذكرونها لمجرد التذكير، أو تخطر بالبال، فهل يعني هذا أنّه ارتكب جرماً؟

إقرأ أيضاً: فيصل القاسم... بابلو إسكوبار الإعلام العربي!

لنخفّف مدحنا وتهويلنا، وتفاخرنا بمدينة منسية؟ مدينة ما زالت هزيلة في صورتها وفي تركيبتها، وما زال الكثير من أبنائها يعيشون في آفاق ضيّقة.. فلماذا كل هذه الإشادة بمدينة ظلت، وإلى اليوم ميّتة؟. مدينة بقيت منسية من قبل حكومتها قبل أبنائها الذين هجروها ونسوها، ولم يعد يتذكرون منها سوى الاسم!.

هذا حال الرقة التي كانت تعني بالنسبة لنا بعض الأمل، وهذا الأمل تلاشى مع الأيام، نعم تلاشى ولم يعد بالنسبة لكثيرين الرغبة لمجرد سماع اسمها... إنها محطة في الحياة سبق أن عشناها، وها نحن نعيش حياة أخرى في بلاد تحترم الإنسان، وتترفع عن أذاه، أو حتى قذفه بباقة من الورود. الإنسان في تلك البلاد يظل له تقديره واحترامه، وتربيته المعتاد عليها، بثقله، ونبل أخلاقه.. وطباعنا نحن أبناء العرب فيها اختلاف كبير بين ما كنا نعيشه في بلاد تتغنى بلغة الضاد، ولكن هناك في البلاد التي لا تعرف لغتنا، يظل للإنسان مكانته واحترامه وتقديره.

إقرأ أيضاً: عن تصحيح ورقة الامتحان

فالرقة التي كانت بالنسبة لنا هي المولد والمنشأ، لا أظن أنها ستظل كما عهدنا بها تحنُّ على أبنائها، أو تبادر حتى على احتضانهم، لأنهم صاروا من المنسين كما نسوها. فالوطن يظل هو المكان الذي يعيش فيه الإنسان، ويجد فيه نفسه وحياته، ومن يهتم ويرأف عليه، وبحتمي به، ويساعده على تجاوز الكثير من احتياجاته.

هذا الوطن الحقيقي الذي نفض عن كاهلنا غبار الماضي وآلامه، وشح الحكومات الظالمة التي لا يهمها سوى الدعس على الإنسان وإذلاله وإهانته، وهذا كل ما يهمها. هكذا كنا!