راضي جمال، الذي أدى شخصية المجذوم السابق بشاي
Getty Images
اختار المخرج راضي جمال وهو مصاب سابق بالجذام وشفا منه لبطولة فيلمه

في محاولته الإخراجية الأولى نجح أبو بكر شوقي في إنتاج فيلم لفت الأنظار إليه ووضعه في مقدمة المشهد السينمائي المصري الراهن، بعد تحقيق حضور جيد في المهرجانات الدولية، تمثل في مشاركته في التنافس في المسابقة الرسمية في مهرجان كان هذا العام، وهو ما لم يتحقق إلا لأفلام مصرية نادرة كان آخرها فيلم "بعد الموقعة" عام 2012 للمخرج يسري نصر الله.

ولعل العنصر الأساسي في هذا النجاح يرجع إلى اختياره موضوعا من الهامش الاجتماعي، هو مرضى الجذام، الذين ظل التعامل معهم محملا بالكثير من المفاهيم الخاطئة علميا واجتماعيا، ومحاولته انتقاد النظرة الاجتماعية السائدة، فضلا عن توفّقه في اختيار عينة ممثلة لهم عبر شخص أصيب بالجذام وشفي منه، وله حضور محبب على الشاشة رغم التشوه الذي تركه المرض على وجهه.

فكان اختيار أشخاص حقيقين من الهامش الاجتماعي وليس ممثلين عنصر قوة أساسيا في تميز الفيلم عن الكثير من الأفلام التي تناولت الجذام واستخدمت ممثلين محترفين وحيلا "مكياجية" لأداء شخصيات المصابين به.

وفي المقدمة من هؤلاء الأشخاص : راضي جمال، الذي أدى شخصية المجذوم السابق بشاي، والتي تستمد الكثير من ملامحها من شخصيته الحقيقية في الواقع، والطفل أحمد عبد الرازق الذي أدى دور الصبى النوبي أوباما، وشكلا معا ثنائيا ناجحا له مسحة من الطرافة وحضور محبب على الشاشة.

وقد بذل المخرج جهدا واضحا في تدريب بطليه على الأداء أمام الكاميرا، والعمل معها بألفة ومن دون وجل أو تكلف.

احتفاء بالحياة

واتسم مدخل شوقي، وهو كاتب السيناريو أيضا، في التعامل مع موضوعته تلك بنزوع إنساني واضح واحتفاء مميز بالحياة مهما كان حجم المأساة فيها.

بيد أن هذا النزوع الاحتفائي بالحياة وقدرة شخصيته على التأقلم معها قاد إلى خطر التحول إلى نوع من المصالحة المطلقة والقدرية مع واقع شخصيته الرئيسية والاكتفاء بانتقاد النظرة الاجتماعية العامة للناس لها بشكل عام وهلامي بعيدا عن تحليل كثير من مسبباتها وما يقف وراء واقع البؤس الذي تعيشه، لاسيما تلك التي تمس السلطة وعلاقات القوة أو الاقتصاد داخل التركيبة الاجتماعية وصلاتها بنظام عزل الهامش الاجتماعي، ممثلا بمرضى الجذام والمرض العقلي والشحاذين والأيتام والمهمشين الآخرين الذين تجري أحداث الفيلم وسطهم.

لقد كُتب الكثير عن نظام العزل والمراقبة في حقل السياسة الحيوية (البيوبولتيكس) بعد كشوف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو المميزة في هذا المجال، وعن الشروط السياسية والاقتصادية والتاريخية والاجتماعية التي ولد في داخلها نظام العزل وتلك النظرة إلى مرضى (الجذام والجنون وغيرهم).

بيد أن معالجة شوقي جاءت بعيدة عن مثل هذه التحليلات وتكاد تسقط في إسار نظرة رومانسية تترافق مع سعي لتحقيق تعامل جمالي مع هذا الموضوع وتقديمه بشكل محبب للجمهور يتوسل المفارقة والكوميديا لتحقيق ذلك، ما يضعنا في مواجهة خطر فصل هذا الهامش الاجتماعي البائس والنظرة الاجتماعية السلبية له عن سياقات مسبباتها في علاقات القوة والسلطة في المجتمع.

ويهدد هذا النزوع للاحتفاء بالإقبال على الحياة وأجواء التضامن لدى الفئات المهمشة التي تديم هذا الحياة بإضفاء صبغة شاعرية عليها في عالم قدري منفصل عن العالم الخارجي الذي يهمشها.

فيلم طريق

يبتدئ شوقي فيلمه بعرض لحياة بطله بشاي، وهو مجذوم سابق في الأربعينيات من عمره شُفي من المرض الذي ترك آثارا مشوهة على وجهه وجسده، وعمله في التقاط أشياء من المزابل وبيعها، وألفته مع صبي نوبي يعاونه ويعيش في مأوى أيتام قريب من مستعمرة الجذام التي يعيش فيها.

أبو بكر شوقي
EPA
نجح أبو بكر شوقي في إنتاج فيلم لفت الأنظار إليه ووضعه في مقدمة المشهد السينمائي المصري الراهن

ونعرف أن بشاي عاش حياته كلها في مستعمرة الجذام بعد أن تركه والده وهو طفل أمامها ولم يعد إليه، وأنه يحظى بمحبة وتعاطف واحترام من يعيشون في المستعمرة وجوارها، بيد أن وفاة زوجته المصابة بمرض عقلي، تقوده إلى التفكير في العودة للبحث عن والده وأهله.

ويجمع بشاي أشياء منزله البسيطة في عربة يجرها حمار ويقرر خوض رحلة طويلة من مستعمرة الجذام على أطراف القاهرة إلى أهله في قنا بصعيد مصر، وبعد أن يقطع شوطا في طريقه يكتشف أن الصبي أوباما كان مختبئا وسط حاجياته في العربة فيضطر لأخذه معه في رحلته.

وتشكل هذه الرحلة لبشاي وأوباما مادة لفيلم طريق يتعرضان فيها لشتى المقالب والمشكلات وثقل النظرة السلبية للناس إلى مريض الجذام أو تشوهه الجسدي والخوف من العدوى منه رغم شفائه، فنرى نساء يبعدن أطفالهن الذين كانوا يسبحون مع الجواميس في النهر عند نزول بشاي للسباحة فيه.

ومن هذه المشكلات، تعرض بشاي وأوباما لمحاولة سرقة والى كسر محور عجلة العربة فتؤدي محاولة إصلاحه إلى إصابة الصبي أوباما بجرح برأسه (لم ينفذ مشهد السقوط بشكل جيد)، وعندما ينقله بشاي إلى عيادة قريبة يواجه برفض لوجوده حتى من الممرضة التي تعالج الصبي، وينتهي الأمر باعتقاله من الشرطة لعدم حمله أوراقا ثبوتية.

واثناء الاعتقال يسجن بشاي مع شخص ملتح، يبدو أنه متطرف إسلامي. ونرى أنه يحاول تجنبه خوفا من العدوى، لكن الشرطة تقيده معه بنفس القيد، وعندما يتمكن من الهرب يأخذه معه الى جماعته الذين يفكون قيده.

ويلمح المخرج في هذا المشهد إلى التمييز والتطرف الديني عندما يخفي بشاي دينه المسيحي ويتخذ له اسما مسلما أمامهم، كما يزج بحديث للنبي محمد عن الجذام مقتطعا من السياق التاريخي الذي ورد به وهو "فر من المجذوم فرارك من الأسد" وكأنه حكم مطلق في الإسلام على الجذام، على الرغم من أنه حديث ضعيف الاسناد بنظر بعض الدارسين، ويتناقض مع حديث آخر للرسول هو "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول"، وثمة من يربط النصين معا ويضع النص الثاني مقدمة للأول.

ونجد في ذلك تعاملا مبتسرا مع هذا الموضوع في سياق النص الديني كان من الافضل تقديمه في سياق أكثر موضوعية وتفصيلا، وليس مجرد جملة عابرة في سياق مشهد كوميدي.

وبعد أن ينفق الحمار، يلجأ بشاي وأوباما إلى ركوب القطار، وهنا يتعرضان إلى مشكلة مع جابي القطار الذي يطردهما، وواقع الحال لم يظهر أن في سلوكه تمييزا ضد بشاي بسبب مرضه بل كان المشهد لعدم دفعه ثمن بطاقة القطار.

وفي أحد المشاهد في القطار يطلق بشاي صرخته "هو أنا مش بني آدم"، وهي صرخة تذكر ببطل فيلم ديفيد لينتش "الرجل الفيل": "لست حيوانا، أنا إنسان"، وهو الفيلم الذي حاكى شوقي بعض ثيماته، كما في مشهد قناع وجه بشاي عند تذكر لحظة إلقائه أمام المستعمرة، كما بدت ثمة تأثيرات خفيفة لفيلم طريق آخر للينتش أيضا هو "قصة ستريت" في رسم مسار رحلة البطلين.

وفي النصف الثاني من الفيلم يلتقي بشاي وأوباما بمجموعة من المهمشين الذين يمتهنون الشحاذة، معظمهم من المصابين بعاهات جسدية، بعد مشاجرة بسبب ممارستهما الشحاذة، تتحول إلى تعاطف كامل معهما ومساعدتهما لاحقا.

وتقوم المجموعة بأخذ أوباما إلى مأوى الأيتام القديم الذي كان فيه عند طفولته والذي أصيب بزلزال، ليبحثوا عن أوراقه الثبوتية الشخصية ومصير والديه (من الغرابة أن تظل ملفات رسمية مهجورة في مبنى مهجور ومدمر!! والتبرير الوحيد الذي يقدمه الفيلم امتداح البيروقراطية المصرية، في مشهد يحاول جعله مضحكا بسبب طريقة بشاي بلفظ الكلمة).

ويساعد أحد الشحاذين، وهو سائق شاحنة سابق قطعت ساقاه في حادث، بشاي بالوصول إلى بلدة أهله بنقله في شاحنة أحد أصدقائه القدامى.

يحرص شوقي على أن يقدم لنا هنا عالما مثاليا للفقراء والمهمشين عماده التعاون والتضامن والتراحم. ويبدو حوار بعض الشخصيات طافحا بالحكمة والوعظ، كما هي الحال مع من يتحدث لهم بلغة خطابية عالية عن قدرهم في العيش منبوذين في المجتمع وأنهم لن يحصلوا على المساواة إلا في يوم الدين (يوم الحساب) عند وقوف كل البشر سواسية أمام الرب.

مثل هذه البلاغة الوعظية ظهرت أيضا في مشهد لقاء أب بشاي في الربع الأخير من الفيلم، الذي بدا أحد اضعف مشاهده أداء وتنفيذا.

ويختتم شوقي رحله بشاي بقراره العودة إلى واقعه القديم في مستعمرة الجذام، على الرغم من أن شوقي لم يظهر لنا سوء في التعامل معه بعد عودته إلى أهله.

وفي لقطة احتفائية ينهي شوقي فيلمه ببشاي ملقيا بالقبعة وغطاء الوجه الذي صنعه له أوباما ليتجنب نظرات الأخرين، مبتسما لخياره في العودة إلى حياته القديمة.

خيط رفيع

يعد فيلم يوم الدين المحاولة الاخراجية الأولى للمخرج النمساوي المصري، أبو بكر شوقي، وجاء بعد دربة فيلم وثائقي عن الموضوع نفسه "مستعمرة الجذام" كان مشروع تخرجه من المعهد العالي للسينما في مصر، الذي انتقل إليه بعد دراسة العلوم السياسية في مصر، كما درس أيضا مدرسة تيش للفنون في نيويورك (Tisch School).

العاملون في فيلم "يوم الدين"
AFP
العملون في الفيلم وفي المقدمة نجماه راضي جمال (بشاي) وأحمد عبد الرازق (الصبي أوباما)

لقد استطاع شوقي أن يحجز له موقعا بقوة في مقدمة المشهد السينمائي المصري الراهن، عبر النجاح الكبير الذي حققه فيلمه وتمثيله في مهرجانات عالمية بارزة واختياره هذا العام لتمثيل مصر للتنافس على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي.

بيد أنه ظل يحمل بعض عثرات المحاولات الأولى، التي أشرنا إلى بعضها في سياق هذه العرض. وللتوضيح نقول هنا أن ثمة خيطا رفيعا يفصل بين المشهد ذي الكثافة العاطفية العالية وتجاوزه إلى الوقوع في فخ استدارا العواطف، أو بين المشهد الذي يحتوي على فعل درامي قوي والميلودراما.

وتحديد مثل هذا الخط الفاصل هو خلاصة دربة سردية ومعرفية وجمالية عالية، هي ما يميز بين المخرج العارف والمبتدئ الطامح إلى لفت الانتباه إلى عمله.

لقد نجح شوقي في تأسيس قاعدة نهج تعامل واقعي مع موضوعه، بدءا من اختيار شخصيات حقيقية من الواقع، والتصوير في المواقع الحقيقية، مقدما مشاهد مؤثرة كتلك التي صورت بطلة وسط أكوام القمامة أو عزلته وسط فضاءات مجدبة.

ولعل أبرز ما يحسب لشوقي هنا عمله مع أناس عاديين وممثلين غير محترفين وقدرته على تدريبهم واستخلاص أداء مميز منهم.

بيد أن هذا النهج تعرقل مع محاولة بناء حبكة سردية مثيرة تجذب مشاهده، توسلت بمشاهد حركة بعيدة عن جوهر أزمة شخصياته، (مشهد السرقة مثلا)، أو محاولة إضفاء بعض الطرافة على الشخصيات تكسر حدة مأساوية واقعها وتقربها أكثر من المشاهد.

وترافق ذلك مع حوار غير متقن كتب بصوت واحد ولم يأخذ بالاعتبار تنوع الشخصيات أحيانا وتحدرها من قاع المجتمع ونقص تعليمها، ومنحها أحيانا مفردات وتعبيرات غريبة عنها، أو حملها مضامين معرفية لا تتناسب مع طبيعة التربية الاجتماعية.

كما لم يوفق في استخدامه لمشاهد الاستذكار "الفلاش باك" أو الأحلام التي لم تخدم مسارات تطور السرد أو تقدم ما يغنيه أو يضيف له بل جاءت لتأكيد تفاصيل ذكرت أصلا في السياق، أو ظلت عند حدود تأدية وظيفة جمالية شكلية خالصة.

بيد أن ذلك لا يحجب قدرة شوقي الواضحة على تقديم مشهد سينمائي مؤثر ومشوق واتقان عناصر بنائه الجمالية صوتا وصورة.

وقد نجح مدير تصويره فيدريكو جيسكا، (وهو من خريجي مدرسة تيش للفنون ايضا) في تجسيد رؤى شوقي، وعزز نهجه الإخراجي الواقعي،باعتماده التصوير في الضوء الطبيعي في المشاهد النهارية واستخدام مصادر إنارة مقتصدة وبساطة كبيرة في توزيع مساقط الضوء ما يترك للشخصيات حرية أكبر في الحركة على مساحة أوسع.

واستخدم جيسكا كاميرا عملية من نوع (Arri Alexa Classic)، تتناسب مع عمله في مواقع طبيعية وفي الضوء الطبيعي وسط تقلبات الجو ومصادر الإنارة، كما أكثر من لقطات الكاميرا من منظور فوق الكتف (over the Sholder)، فجاء أسلوب عمله أقرب الى اسلوب العمل في الفيلم الوثائقي.

وسبق لجسيكا أن استخدم النوع ذاته من الكاميرات في فيلمه السابق "خنازير ميتة" للمخرجة الصينية كاثي يانغ في فيلمها الأول أيضا، وهي أيضا زميلة في المدرسة الفنية ذاتها في نيويورك.

كما بدا موفقا جدا في تصوير مشاهده الليلية، لاسيما مشهد البحث في أزقة قرية الأب، وفي توزيع مساقط الإنارة في مشهد السهرة مع الشحاذين لاستخلاص لقطات قريبة معبرة مستثمرا ذاك التناقض بين الضوء والظلمة في الإنارة الليلية لخدمة تعزيز البناء الدرامي في مشهده.