"إيلاف" من القاهرة: يُعتبر المسرحي الراحل سمير خفاجي أحد رواد ومؤسسي المسرح ليس فقط بأعماله الإنتاجية ولكن بمعاشرته لكبار لنجوم ورصده الدقيق لأحوال المسرح على مدار عقود وثقها في كتابه "أوراق من عمري" الذي أصدره قبل رحيله بمساعدة الفنان القدير محمد أبو داوود.
وتواصل "إيلاف" نشر مذكراته عبر عدة أجزاء لتقص على القراء حكايات المسرح المصري كما رواها مؤرخاً&لمرحلة مهمة في مسيرة المسرح المصري ويتحدث فيها عن علاقته بالنجوم والمواقف االتي واجهته ذاكراً الوقائع بأسماء أصحابها.
&

الحلقات السابقة من سلسلة مذكرات المسرحي سمير خفاجي
الحلقة الأولى: سمير خفاجي يؤرِّخ المسرح المصري في أربعينات القرن الماضي
الحلقة الثانية: سمير خفاجي العاشق لصوت "أم كلثوم": هكذا رحل نجيب الريحاني!




&

إحياء فرقة الريحاني
في الأسابيع التالية لموت الريحاني ظهرت في الصحف والمجالات ترشيحات لمن يخلف عرش الكوميديا بعد نجيب الريحاني متناسين أن الفن لا يورث ويجب على من يمارسه أن يعتمد على شخصيته ولا يقلد أحدا.&
في أكتوبر من نفس السنة أعلن الأستاذ بديع خيري أنه سيقوم بفتح مسرح الريحاني وسيكمل المشوار الذي بدأه مع شريك عمره بعد أن سوى الخلافات التي كانت قائمة مع شقيقه يوسف الريحاني، مشيراً إلى أن مسرحية الأفتتاح ستكون (أحب حماتي) آخر ما كتبه الريحاني مع بديع خيري وسيقوم بالبطولة شاب جامعي هو عادل خيري نجل الاستاذ بديع، وما هي الا أيام وظهر في الصحف الاعلان عن المسرحية وهو نفس صيغة الإعلام الذي كان يعلن عنه أيام الريحاني (فرقة نجيب الريحاني تقدم المسرحية الجديدة أحب حماتي من تأليف الأستاذين نجيب الريحاني وبديع خيري على مسرح ريتس).
كان لدي شوق واصرار وفضول لحضور حفلة العرض الأولي. وما أن اعلن عن فتح الشباك حتى كنت على باب المسرح قبل أن تصل بائعة الشباك وكان معي صديقي ممدوح خيري، اتفقت ميولنا فكنا نذهب ونخرج سوياً. وما أن فتح الشباك حتى كنا أول من ابتاع تذاكر المسرحية في الصف الأول، وما أن دخلت المسرح أنا وصديقي وجلسنا على مقاعدنا وسلطت الأضواء على الستار حتى شعرت بدقات قلبي تسرع وأنفاس متلاحقة إذا لم أتصور أن أحضر عرض لفرقة الريحاني ولا أراه بطلاً للعرض، خاصةً أنني حضرت أغلبية عروضه.&

ما انفرجت الستار ظهر الاستاذ بديع خيري والحزن باد عليه وقال لجمهور الصالة لقد مات نجيب الريحاني ولكن فنه يجب أن يبقى، مسرحه يجب أن يعيش وسيبقى المسرح خالياً لمدة دقيقتين بعد رفع الستار تحية لذكرى الفقيد وإشعاراً بالفراغ الذي تركه هذا الفنان الذي لن يعوض وبعد ذلك بدأت المسرحية.&

وكان جميع أبطال الفرقة يمثلون في المسرحية ما عدا الاستاذ بشارة واكيم، كما كان يمثل باقي أدوار المسرحية السيدتين ميمي وزوز شكيب والسيدة ماري منيب ونجوى سالم وزينات صدقي والاساتذة حسن فايق، عبد الفتاح القصري، واستيفان روستي علاوة عن الأستاذ سارح منير الذي قام بإخراج العرض، وظهر عادل خيري لأول مرة وبذل مجهودًا كبيرًا، حاول أن يسد به فراغ نجيب الريحاني وهو الممثل الجديد الذي يمثل لأول مرة على مسرح الإحتراف إذ أن تجربته المسرحية لم تكن تتعدَ التمثيل في مسرح الجامعة وبعض فرق الهواة مثل جمعية الشبان المسيحيين فبدا كثير الحركة ولم تنجح المسرحية النجاح المطلوب رغم ما بذله أعضاء الفرقة من مجهود، وهم يحاولون مساعدة الممثل الشاب.&

كان الفراغ الذي تركه نجيب الريحاني كبيرا فهو عملاق كوميديا الذي عاش في وجدان الجمهور عشرات السنين، فكيف بهذا الشاب أن يملأ هذا الفراغ، كان الأستاذ بديع خيري عاشقا للمسرح ومقاتلا عنيدا، لا يقبل بالهزيمة مطلقا وبسرعة أزاح ابنه مؤقتا حرصاً على مسرحه، وحرصا على مستقبل ابنه الذي اختار التمثيل مهنة، بالرغم من أنه خريج كلية الحقوق ومحام.
كان الريحاني له مسرحيات يقدمها دائما ريبورتوار وكان اغلب الجمهور يعرفها معرفة جيدة، وكان هناك بعض مسرحيات لم يقدمها لفترة طويلة مثل (الشاب لما يتدلع) و(عباسية) و(مين يعاند ست) فاختار الاستاذ بديع أن يقدم هذه المسرحيات على اعتبار ان اجيال من الجمهور لم تكن قد شاهدتها وتعاقد مع الممثل القدير عباس فارس لتقديم هذه المسرحيات، ونجحت خطة الاستاذ بديع وبدأت الفرقة تستقر.

&


&

عشق المسرح..&
بدأ حب المسرح يستولي علي بالرغم من أني لم أفكر في أي لحظة أن أكون ممثلاً. فكل مصروفي كنت أدخره لحضور المسرحيات في الفرق الموجودة وكان الاستاذ زكي طليمات قد أنشأ فرقة مسرحية جديدة من خريجي معهد التمثيل كانت تضم سميحة أيوب ونعيمة وصفي وسناء جميل وعبدالمنعم إبراهيم وأحمد الجزيري، وانشراح الألفي وحمدي غيث، وقدمت في افتتاحه مسرحية ابن جلا، التي قام بإخراجها واضطلع بدور الحجاج فيها الاستاذ زكي طليمات، وقدمت بعد ذلك عددا من المسرحيات العالمية والمصرية مثل مدرسة الاشاعات وشروع في جواز ومسمار جحا التي قدم فيها عبدالمنعم ابراهيم دورا من أعظم الأدوار.&

من التمثيل للحقوق !
انتهيت من التعليم الثانوي وكانت امنيتي أن التحق بمعهد التمثيل، ولأني كنت أعرف أن أمنيتي هذه لا يمكن أن تتحقق لأني أعلم مسبقًا رأي والدي في هذا الموضوع فلم أحاول حتى طرح رغبتي هذه، واخترت كلية الآداب باعتبار أن الدراسات الأدبية في كلية الآداب ستفيدني في دراسة المسرح والدراما لكن والدي عارض هذه الرغبة وأصر على التحاقي بكلية الحقوق على أساس أن عمي يوسف محام كبير في الاسكندرية، وله مكتب معروف وعمي ليس له أبناء فكانت وجهة نظر والدي وعمي أنه بمجرد أن انتهي من دراستي بكلية الحقوق أنتقل إلى الاسكندرية وأٌقيم مع عمي وأتمرن بمكتبة حتى أصبح المحامي الكبير مثله، أساعده في كبره ورضخت لطلب والدي والتحقت بكلية الحقوق رغم عدم ميلي لها.

&في أول أيام الدراسة ما أن دخلت الحرم الجامعي وعبرت إلى كلية الحقوق بجامعة القاهرة فوجدت في ردهة الكلية إعلانا ضخما لفريق التمثيل في الكلية عن مسرحية عطيل تحفة شكسبير بطولة فوزي درويش، وفي مقابل كلية الحقوق توجد كلية الادب وكلية الآداب لها بوفيه له شهرة كبيرة، كنا نتردد عليه حينما لا يكون عندنا محاضرات، وتعرفت في البوفيه على شخصية جذابة لها سحرها هو المأمون أبو شوشة الذي كان يقضي معظم وقته في بوفيه الآداب، على الرغم من أنه ينتمي لكلية العلوم ولا أحد يدري كم عدد السنين التي كان فيها المأمون طالبًا في كلية العلوم.
المهم انني في اتجاهي للبوفيه أمر بردهة كلية الآداب فوجدت إعلانا ضخمًا يعلن عن تقديم على بدران لرائعة شكسبير هاميلت، وأيضا كان النشاط الاجتماعي والفني والرياضي من أهم أهتمامات الاساتذة في الجامعة فكل الكليات لها فريق تمثيل وفريق رياضي وكلها تتفانس على بطولة كأس الجامعة.&

&



فؤاد المهندس موظف مبدع..
تعرفت على فؤاد المهندس في الجامعة، وكان قد انتهى من دراسته في كلية التجارة وأصبح موظفا بالمدينة الجامعية وهو عاشق مسرح، فقد كان أحد نجوم كلية التجارة بالمسرح، وكان يفضل أن يقدم مسرحيات نجيب الريحاني مع مجموعة ممن احترفوا التمثيل بعد ذلك كفؤاد راتب (الخواجة بيجو)، ومنهم من اتجه اتجاهات أخري في الحياة، وكان في كلية التجارة فريق التجارة آخر يفضل تقديم مسرحيات مترجمة، يتزعم هذا هذا الفريق حسين عبدالنبي وأحمد حلمي، والأول أصبح موظفا في شركة مصر للتأمين وهذا لم يمنعه من التمثيل، رغم انه لم يصادف نجاحا ملحوظا،رغم كثرة الفرص التي أتيحت له، أما الثاني فأصبح موظفا في الرقابة على المصنفات الفنية وفي نفس الوقت ظل يترجم ويقتبس المسرحيات ويقوم بالإخراج أحيانا، حينما كان فؤادالمهندس في السنة النهائية ذهب فؤاد المهندس إلى نجيب الريحاني ورجاه رجاء حارا أن يقبل أن يقوم بإخراج مسرحية لفريق التجارة، قبل الريحاني أن يخرج فصلا واحد من مسرحية حكاية كل يوم، رغم أنه قال لأعضاء الفريق كنت أتمني ان تطلبوا مني إخراج احدى مسرحيات موليير، وفي أثناء التدريب على المسرحية كان الريحاني معجبا بأداء فؤاد المهندس وتنبأ له بأنه سيكون له شأن في المسرح، انتهت التدريبات وجاء يوم العرض في دار الأوبرا الملكية، اليوم الذي طال انتظار فؤاد المهندس بشوق ولهفة، فقد كانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي يقوم فيها نجيب الريحاني بالإخراج لإحدى فرق الجامعة.
صباح يوم العرض تحطمت آمال فؤاد المهندس إذ توفت والدته وهو يستعد للقيام بدوره فلم يتمكن من الذهاب للمسرح للتمثيل بل اتجه لسرادق العزاء لتقبل العزاء برحيل والدته.
علم نجيب الريحاني بالخبر فحزن حزنا شديدا إذ انه كان يريد أن يرى ثمرة مجهوده مع هذا الشاب المتحمس وأصيب بإحباط. فلم يذهب إلى دار الأوبرا ليرى ماذا سيفعل الفريق.&

وعد الريحاني..
كان العرض سيقدّم في حفلة ماتينيه الساعة الخامسة وكان الريحاني يقدم في مسرحه حفلة السواريه فسأل محمود لطفي (ملقن مسرح الريحاني) وكان هو أيضا ملقن فريق التجارة: (ماذا فعل الشباب؟) وكان يتوقع إلغاء العرض، لكن محمود لطفي أخبره أن العرض قد تم وسأله عمن قام بدوره في المسرحية، فأجابه بأنه هو من قام بدوره (أي محمود لطفي)، ثار الريحاني ثورة عارمة، إذ كيف يجرؤ على أن يقوم بدوره وهو الملقن ومكانه كمبوشة المسرح، وقد كان محمود لطفي يضطلع ببعض الأدوار كبديل في مسرح الريحاني حينما يعتذر أصحابها القيام بها، لطارئ ألم بهم، لكن تبلغ به الجرأة القيام بدور نجيب الريحاني شخصيا فذلك لم يقبله نجيب الريحاني.

في هذا العام فاز فريق التجارة الذي يتزعمه أحمد حلمي بكأس الجامعة عن مسرحية ترجمها أحمد حلمي وهي مسرحية (كرايتون العجيب) التي قدمها سيد بدير بعد ذلك بربع قرن لفرقة الريحاني واسمها سنة مع الشغل اللذيذ والتي لاقت نجاحاً ملحوظاً واستمر عرضها ما يقارب العامين.
حينما قام الريحاني بواجب العزاء لفؤاد المهندس وعده أن يقوم بالإخراج له مجدداً، ولكنه سيقدم له في هذه المرة مسرحية كاملة وليس فصلاً واحداً. واختار أن يقدم له مسرحية (ياما كان في نفسي) ولكن القدر لم يمهل الريحاني لتحقيق وعده إذ وافته المنية قبل أن ينجزه.

كان وقتي في أثناء فترة الدراسة مقسما بين بوفيه كلية الآداب حيث ألتقي مع المأمون أبوشوشة والدكتور فوزي حسين وهو معيد في كلية العلوم ومهتم بالمسرح، والدكتور يوسف شوقي الدارس موسيقي والملحن بعد ذلك، وفرحات عمر الذي أًصبح الدكتور شديد بعد ذلك، وبين المدينة الجامعية حيث يعمل فؤاد المهندس وكان فؤاد في هذه الفترة لا يمارس أي نشاط مسرحي، فكان موظفا فقط وكان يقوم ببعض الأدوار في تمثيليات الإذاعة المصرية، وأحيانا يقوم في حفلات السمر التي تقيمها الجامعة في أسبوع شباب الجامعات بتقليد الممثلة الراقصة البرازيلية التي كانت مشهورة جدا في هذه الفترة كارمن ميرندا.
كان فؤاد حينما يقلدها في إحدى أغانيها المعروفة في الأفلام وكانت لها أفلاماً كثيرة يقلدها في كل شي، طريقة أدائها وحركتها السريعة جداً، حتى ملابسها الغريبة فقد كان يرتدي جونلة برازيلية طويلة مفتوحة من الجنب، فتظهر ساقه التي كانت رفيعة جدا، وجزمة كعب عال جدا نعلها سميك جدا كانوا يسمونها جزمة دبابة، كذلك كان يرتدي بلوزة قصيرة، تكشف عن خصره محاطا بورود كثيرة، وكمية من العقود الضخمة وفي يديه أساور كثيرة جدا ويضع على رأسه عمامة كانت مشهورة بها، مثبت في أعلاها سلة ضخمة جدا مليئة بالفواكه، ثمارأناناس، عنب، برتقال، موز، كل أنواع الفواكه وكانت غالية جداً.
حين كان فؤاد المهندس يظهر على المسرح بهذه الصورة تضج صالة العرض بالتصفيق والتهليل والضحك، كان فؤاد يقلدها تقليداً مطلقا وكان بهذا الفصل سحرا خاصاً حتى أن فؤاد بعد ذلك بفترة طويلة قدّم هذا "الاسكتش"(لفصل المسرحي) في أول بطولة سينمائية له بفيلم (بنت الجيران).
&

&

&


كواليس مسرح الريحاني..
لم يمضِ على عرض مسرحية "أحب حماتي" غير أسابيع قليلة حيث كنت أسبر في شارع عماد الدين يوم الأجازة الاسبوعية اتفرج على معروضات صور السينمات حتى رأيت الأستاذ بديع خيري يدلف إلى مسرح الريحاني ولم أدري كيف واتتني الشجاعة أن اتجه إليه وأعرفه بنفسي، فأنا طالب في كلية الحقوق يهوى المسرح ولي أمنية أرجو أن يحققها لي، فلما سألني عن هذه الأمنية أن أحضر بروفات مسرحية الفرقة، وقدر الرجل حبي للمسرح وأعلن قبوله حتى شعرت بأني في أولى خطواتي لأن أكون رجل مسرح.
وأخبرني أن البروفات تبدأ في السابعة مساء قبل حفل السواريه الذي يبدأ في التاسعة والنصف وأنه يمكنني الحضور بدءا من الغد.
بدأت أعد الساعات انتظارا للسابعة من الغد، والساعات تمر طويلة، ولم أشعر بالقلق في حياتي قدر شعوري به في هذه الليلة، حتى أن ذهبت إلى سريري لم استطع النوم. ففي كل ربع ساعة كنت أضيء نور الغرفة وانظر إلى الساعة، فأشعر بأنها لا تكاد تتحرك حتى طلع نور الفجر وبدأ النهار ثقيلا مملاً.
وما أن حلت الساعة الخامسة حتى كنت أرتدي أحسن ما عندي، وتوجهت لشارع عماد الدين اتسكع حتى اقتربت من الساعة السابعة، ودخلت لأول مرة من الباب الخشبي الضيق الذي يؤدي لكواليس المسرح، انتابني شعور غريب بأن أجد المسرح خالياً ولقد فُتحت الستار ووضِعَت كراسي في مقدمة المسرح، وجلست على أحد المقاعد وخلفي صالة العرض خالية من الحضور مظلمة، وبدأ الممثلون يتوافدون ويحتلون المقاعد.

ولقد انتابني شعور فريداً وأنا أجلس بجوار من تعودت على رؤيتهم وهم يمثلون فقط، أما الآن فأنا اجلس إلى جوارهم وتجري بينهم أحاديث جانبية ليس لها علاقة بالمسرحية، هنا يجلس الأستاذ بديع، ماري منيب، عباس فارس، حسن فايق وزينات صدقي وجميع أبطال الفرقة، معقول أنا أجلس مع ميمي شكيب وزوز شكيب وأراهم على سجيتهم بدون مكياج أو رتوش.. وبدأت البروفة وهذه أول بروفة مسرحية أشاهدها في حياتي.

لم يكن الإخراج كالذي رأيته بعد ذلك بل كان إخراجا بسيطا لم يكن هناك مخرج فالاستاذ سراج منير المفروض أنه المخرج لكن الملحوظات التي كان يبديها قليلة جدا.. كان محمود لطفي الملقن هو الذي يعطي التوجيهات، باعتباره حافظا لهذه المسرحيات، فكان يقول سي نجيب الريحاني كان يقف هنا، وتجلس على أحد الآرائك ماري منيب، هذا مثلا.. ويدخل من كالوس الجنب فلان، وفلانة تتحدث من الخارج قبل أن تدخل، واستمرت البروفة بهذا الشكل حتى اقترب من الساعة التاسعة فبدأ الممثلون يتجهون إلى غرفهم التي تقع جميعها تحت خشبة المسرح فيما عدا غرفة الاستاذ التي تقع أعلى المسرح ولها سلم يؤدي إليها وهي مغلقة، لم يستعملها أحد إحتراما للأستاذ، ولاحظت أنه إذا ذكر اسم الاستاذ بديع أو الاستاذ نجيب من أحد أفراد الفرقة لا بد أن يسبقه (سي) فكانوا يقولون: سي نجيب أو سي بديع إحتراما وتقديرا منهم بمكانة الاستاذين الكبيرين.

كانت مشكلتي في المنزل كيف أحافظ على معاد البروفة اليومي، وكيف أخرج من المنزل يوميا من السادسة إلى العاشرة خصوصا في الموسم الدراسي، فبدأت أكذب إذ أنني سأذاكر عند صديقي ممدوح خيري، أو فلان صديقي مريض ويجب أن أعوده.. إلى ذلك من الحجج.

ظللت منتظما في حضور البروفات ملتزما بمواعيدها ربما أكثر من الممثلين أنفسهم، وبدأت تنشأ بيني وبين بعض الممثلين والممثلات صدقات كزينات صدقي والاستاذ عباس فارس وفي نفس الوقت قامت بيني وبين بعضا من صغار الممثلين عداوة ليست من طرفي على أي حال، لكنهم كانوا يتساءلون عن هذا الدخيل الذي أقتحم مسرحهم ومنهم، اسكندر منسي فهمي.
في نفس الوقت بدأت صلتي بالأستاذ بديع تزداد، فما أن تنتهي البروفة حتى أهرع إلى مكتبه، والأستاذ بديع كان له أكبر الفضل في تشجيعي وتعليمي، إن الإستاذ بديع له مكانة كبيرة في المسرح المصري ومع الأسف لم ينل حظه من التكريم على مستوى ما قدم.. كان الاستاذ بديع خيري صلبا عنيدا، متحديا، حافظ على فرقته رغم كل الضغوط التي كانت تمارس ضده ورغم مرضه، الذي لم يستطع قهره نهائيا فظل فارسا نبيلا يحارب من أجل مسرحه إلى النهاية. كنت إذا جلست أمامه وهو على مكتبه يحكي ذكرياته عن المسرح وكيف كانت صلته بالاستاذ الريحاني، وكيف كانوا يكتبون رواياتهم. وكان الرجل متحدثا بارعًا ما أن يبدأ في الكلام فلا تحس بالوقت وما تدري إلا أنه قد مر ساعتين أو ثلاث وأن تظنهم دقائق، كان الاستاذ بديع متحدثا بارعا وكنت مستمعا جيدا، أحاول أن احفظ من الاستاذ الدرس، فكل كلمة ينطق بها كتاب غزيز المعلومات، لم تكن له علاقة الا بالمسرح وكانت زوجته مسؤولة عن كل شيء لدرجة أنه في إحدى المرات أخذته من يده وأشارت على إحدى العمارات وسألته: إيه رأيك في العمارة دي، فأجابها: فخمة قوي، فقالت له: دي بتاعتنا، وهو لا يدري عنها شيئاً..!
&