"إيلاف" من القاهرة: فقد الفن المصري والعربي واحدة من أهم نجماته وأكثرهن إنتاجاً. وهي الفنانة القديرة مديحة يسري التي رحلت عن عمرٍ يناهز97 عاماً بعد صراعٍ طويل مع آلام المفاصل والعظام. "إيلاف" تلقي الضوء على سيرتها الفنية والشخصية عبر حلقات.

حب جديد
في محنة وفاة الزوج والحبيب أحمد سالم، لم يقف إلى جوار مديحة يسري في عزلتها سوى عدد محدود من الأصدقاء من بينهم الفنان الشاب محمد فوزي الذي كان لا يزال في بداية مشواره الفني. وكان قد تعرّف عليها خلال تصوير فيلمهما "قبلة في لبنان" مع المخرج أحمد بدرخان، فكان فوزي الأكثر زيارة إليها مع ليلى مراد وتحية كاريوكا.
وكأنها كانت تبحث عن الحب لتنسى الحب القديم بآخر جديد يغيّر حياتها. وهكذا عادت إلى الحياة بعد فترةٍ من الإنعزال بدعم من الصديق محمد فوزي الذي طلب منها استكمال دورها بفيلم "دموع الفرح". وهو آخر أعمال أحمد سالم الذي رحل قبل أن انتهائه بشكلٍ كامل. كما أنها كان لديها فيلماً آخر تقوم بتصويره مع الفنان يوسف وهبي. وهو "رجل لا ينام" للمخرج فطين عبد الوهاب، وتعطل أيضا بسبب حالة الحزن التي عاشتها.
بدأت تخرج من أحزانها بمساعدة فوزي، فكان يحرص على الإطمئنان عليها وزياراتها باستمرار بالإضافة إلى دعوتها للخروج لإنهاء حالة الحزن التي بدأت في التخلص منها بالإندماج في العمل. فعرض عليها محمد فوزي مشاركته في إنتاجه الأول "فاطمة وماريكا وراشيل" ووافقت تحت ضغط منه ليقربهما الفيلم من بعضهما بشكلٍ أكبر ويتحول فوزي من صديق إلى حبيب، لكن حبيب لم يكشف عن حبه وسيدة تتابع تصرفاته باهتمام.
وقدمت "يسري" في تلك الفترة فيلمها "الأفوكاتو مديحة" مع يوسف بك وهبي وهو فيلم مأخوذ عن مسرحية قام بتقديمها، وكان باكورة إنتاجها بمفردها، وبسبب علاقاتها الجيدة مع يوسف وهبي لم يتقاضي منها أجراً. بل انتظر حتى يعرض الفيلم وحصل على 20% من الإيرادات ورفض الحصول على الأجر دعماً لها وكان موقفاً نبيلاً منه لم تنسه.

بعدها، عادت للتعاون مع "فوزي" في "اه من الرجالة". وزاد تقربهما من بعضهما. لكن الصدمة كانت في محاولات محمد فوزي بإبعادها عن التمثيل. فحاول أن يدفعها لاتخاذ القرار بالاعتزال وهي الخطوة التي رفضتها بشكلٍ قاطع، لترسم طبيعة علاقتهما سوياً بعد الإرتباط. وبالفعل وافق فوزي على تمسكها بعملها ليتزوجا في مطلع عام 1951 في زيجة استمرت اكثر من 8 سنوات قدما خلال سوياً مجموعةً من الأعمال السينمائية الناجحة، وأنجبت خلالها نجلها الوحيد عمرو.

أثناء تصوير فيلمها "اني راحلة عام 1955" تعرضت مديحة لموقفٍ صعب خلال تصوير مشهد احتراق المنزل. فلم تسمع المخرج وهو يطلب منها الخروج قبل امتداد النيران، ففقدت الوعي داخل الحريق ولم يتم إخراجها إلا عبر أحد رجال المطافيء الذي نقلها إلى المستشفى وهي فاقدة الوعي ليخبرها الطبيب أنها حامل ويطلب منها الراحة.
وكان الفيلم بمثابة إعادة اكتشاف لنجومية مديحة يسري، في الوقت الذي كان يرغب فيه زوجها محمد فوزي بأن يكون المولود سبباً لأن تعتزل وتبقى في المنزل كرغبته الأولى، لكنها لم تمنحه هذه الفرصة. ورفضت أن يكون إنجابها لنجلها عمرو سبباً في اعتزالها. فكانت ترعاه بجانب توفير مربية خاصة له تبقى إلى جواره في فترة عملها، بينما كانت تعتذر عن السفر والسهرات لتبقى بجوار نجلها.

بعد الإنجاب
وتوترت العلاقة بعد انجابها بسبب استمرار رغبته في تفرغها لرعاية طفلها لتبقى إلى جواره. وهو ما جاء متزامناً مع أخبار نُشِرَت في الصحافة عن قيامها بالإنفاق على المنزل باعتبارها الأكثر عملاً من فوزي. الأمر الذي كان يغضبه بشدة، لتتصاعد الأمور بينهما.

وفي تلك الفترة كانت مديحة تقوم بإنتاج فيلم "أرض الاحلام" وكان يفترض تنفيذ التحميض الخاص به مع شركة إنجليزية. لكن ظروف العدوان الثلاثي أوقفت المعاملات بين مصر وبريطانيا، وكذلك التحويلات المالية. فسافرت إلى بيروت على متن باخرة وبموافقة أمنية لتفي بالتزاماتها في رحلة بحرية شهدت فيها مخاطر عديدة بسبب الحرب. لكنها حرصها على الفيلم جعلها تتمسك بالوفاء بالتزاماتها وكان السفر والإنشغال بالعمل أحد أسباب تصاعد خلافاتها مع محمد فوزي.

وكان فيلم "معجزة السماء" وتعاونهما سوياً فيه بمثابة الفرصة التي أعادت لهما الحياة لطبيعتها خاصةً وأنه جمعهما سوياً أمام الكاميرا بعد غياب. لكن بمجرد الإنتهاء من تصويره عادت الخلافات مجدداً. وحاولت مديحة التغلب عليها حتى رفض فوزي سفرها إلى روسيا مصاحبةً لفيلمها الجديد "خالد بن الوليد". لكنها تمسكت بالسفر وبدأ الخلاف بينهما يتسع حتى علمت بخيانته لها مع فنانة شابة. وبعد أن تأكدت من فعلته بصور وصلتها ورسائل قرأتها. الأمر الذي جعل فوزي يغادر المنزل هرباً من مواجهتها. فطلبت منه الطلاق عبر المخرج الكبير حلمي رفلة صديقهما المشترك.

رغم ذلك، احتفظت مديحة بعلاقة صداقة قوية مع والدها ابنها، فخلال فترة زواجهما كانت تعامل أبنائه مثل أبنائها، وكانوا ينادونها بـ"ماما مديحة". بينما بعد الإنفصال ظلت علاقة الود، وظلت على تواصل دائم معهم بالإضافة إلى تواصل نجلها عمرو مع والده وتوجهه لزيارته في أي وقت. فقد كانت حريصة على أن تبقى العلاقة بينهما جيدة، ووقفت إلى جواره في آخر أيامه بعدما داهمه المرض وخسر أمواله في إجراءات التأميم.

وبطلاقها من محمد فوزي في أواخر الخمسينات، بدأت "يسري" فترة جديدة من حياتها. لقد أرادت آنذاك أن تتفرغ لنجلها عمرو وعملها. فاشترت شقتها الجديدة وهي كانت نفس الشقة التي تملكها الفنانة صباح ولم تدخل عليها تعديلات كبيرة. وحرصت على أن تُبقي نجلها عمرو على تواصل مع أصدقائه. ومثلما تفوق في دراسته تفوق في رياضته. فقد كانت حريصة على ان تجعله رياضياً فبرع في الملاكمة (الكاراتيه) ونال مراكز متقدمة فيه بالإضافة إلى إجادته السباحة وركوب الخيل.

وارتبطت بعلاقة وثيقة بابنها، ولم تكن تستطع تركه في مصر وتسافر بدونه. لذا كانت حريصة على اصطحابه معها عندما جاءتها دعوة من التليفزيون اللبناني للمشاركة في إحدى حلقات برنامجه. وكانت هذه الرحلة بالباخرة، وفي هذه الرحلة تعرفت على حبيبها الجديد الكابتن مصطفى والي قائد المركب الذي حرص على تحيتها عندما رأى اسمها ضمن كشوف الركاب.
وكأن المصادفة كانت تمهد لتوطيد العلاقة وقصة الحب بين مديحة ومصطفى، فكابتن رحلة الذهاب إلى بيروت بالمركب هو نفسه كابتن رحلة العودة الذي دعاها لتناول العشاء على متن الرحلة وفتح كل منهما قلبه للآخر. لكن مديحة التي كانت تردد أنها اغلقت قلبها عن الزواج لم تكن تتحدث بصراحة. وهو ما أدركه الكابتن مصطفى. فزاد تقربه لعمرو خاصةً خلال زيارته لفترات التدريب بنادي الجزيرة. وحرص على تقديم الهدايا له للجلوس مع والدته التي كانت تصاحبه في غالبية الأوقات.